حين مات جمال عبد الناصر.. اجتمع مجلس الوزراء ليبحث عن المكان المناسب الذى يتلقى جثمانه المسجى فى النعش.. ولم يجد المجتمعون أفضل من هذا المكان الذى يضم رفاته الآن.. فى ساحة مسجد قريب من بيته فى منشية البكرى. رغم أنه كان مجرد مسجد صغير قيد الإنشاء. فإنه كان المكان الأفضل الذى وقع عليه الاختيار فى نفس المكان الذى كان يقف فيه ليلة 23 يوليو ليدير منه حركة الجيش المباركة فى اتجاه الثورة على الأوضاع.. ولو كان عبد الناصر يعلم أن المكان الذى ستطأه قدماه ليلة الثورة سيكون هو المكان الذى سيدفن فيه. ربما كان سيفكر فى مكان آخر ليقف فيه غير هذا المكان.. ولكن ما تدرى نفس بأى أرض تموت! من بين كل الحكام المصريين.. كان مبارك هو الوحيد الذى حدد لنفسه المكان الذى سيدفن فيه. فأمر ببناء مقبرة تليق بفرعون قذفت به الأقدار إلى عصرنا الحديث. ليذكرنا بأهرامات شامخة بناها الفراعنة قبوراً لجثامينهم المسجاة.. وما نشرته بعض الصحف من أوصاف لهذه المقبرة الفخمة. يؤكد ميل مبارك لحياة الترف. حتى وهو ميت. فقد كان يحمل جينات الترف الفرعونى.. وإن غابت عنه جيناتهم فى حب المغامرة وروح الغزو! هكذا كان مبارك.. بينما كان عبد الناصر يميل إلى البساطة والتواضع. حيا أو ميتا. فعاش بسيطاً.. ومات بسيطا.. ودفن ملفوفا فى كفن البساطة! كان عبد الناصر يفضل المصرى قماشا لما يرتديه.. ولم يغير الترزى الذى كان يفصل له ملابسه حتى مات.. كان «جنيدى» بالعتبة هو ترزى الرئيس. وكان هو نفسه ترزى البكباشى جمال عبد الناصر..! لم يكن عبد الناصر يمتلك حتى أثاث البيت الذى يسكن فيه مثل أى مواطن مصرى وقّع لزوجته على قائمة «بعفش الزوجية».. فقد كان الأثاث فى بيت عبد الناصر عهدة وقّع عليها بالاستلام فى قائمة تخص قطاع الأشغال العسكرية التابع للقوات المسلحة.. وكل قطعة أثاث منها تحمل رقماً. وقّع أمامها عبد الناصر شخصيا بالاستلام أمام المندوب الذى رافق سيارة العفش إلى بيت الرئيس. وبعد أربعة أعوام من الزواج تمكن عبد الناصر من شراء ثلاجة تعمل بالغاز..! حين سمع عبد الناصر بعض الإشاعات التى تلاحق شقيقه الليثى باستغلال النفوذ وتلقى هدايا من بعض الموسورين بالأسكندرية. أصدر عبد الناصر قرار بإقالته من منصبه كأمين للاتحاد الاشتراكى بالأسكندرية. وعين عيسى شاهين مكانه.! حين وصل قرار الإقالة إلى الليثى. رفض التنفيذ وظل يماطل عيسى شاهين فى تسليمه عهدة المكتب. ذهب عبد الناصر بنفسه إلى الأسكندرية ليقوم بنفسه بتسليم المسئول الجديد عهدة المكتب! لم يكن عبد الناصر بالرئيس الذى يقبل استغلال الموظف لنفوذه أو التربح من وراء وظيفته الحكومية، خاصة إذا كان هذا المسئول واحداً من أقاربه.. وحين ذهب عمه خليل - الذى قام بتربيته والصرف عليه - إلى الحج، تلقى قطعتى قماش من الشربتلى - رجل الأعمال السعودى. وحين علم عبد الناصر بذلك طلب من عمه أن يرد الهدية لصاحبها، لأنه لو لم يكن عم الريس لما فكر أحد فى إهدائه! وحين تزوجت أخته الوحيدة - عايدة عبد الناصر - رفض الرئيس أن يحضر حفل الزفاف الذى أقيم بعد نكسة 1967، قائلاً كيف أفرح وأولادى على الجبهة يؤجلون زواجهم إلى ما بعد إزالة آثار العدوان؟! وحين حاول أحد الفلاحين أن يقّبل يده التى سلمته عقد التمليك لأرضه الزراعية قال قولته الشهيرة «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد»! «ارفع رأسك فوق» «أنت مصرى»! وحين بحثت قيادة القوات المسلحة عن أرض تقيم عليها أحد المعسكرات فى أسيوط. تنازل لهم عبدالناصر عن أرض عائلته.. ورفض إقامة المعسكر على أرض غيرها. وحين اعترض أقاربه على ذلك، قال لهم:«الحمد لله أن عندنا أرض نتبرع بها لقواتنا المسلحة وإذا لم نتبرع نحن فمن أولى منا بالتبرع؟!». وقد رفض عبد الناصر طلباً تقدم به ممدوح سالم - محافظ أسيوط فى ذلك الوقت - ليجعل بنى مر قرية نموذجية.. وقد أشّر عبد الناصر على الطلب قائلاً: أوافق على أن تكون بنى مر آخر قرية نموذجية فى مصر»! ألا يجعلنا ذلك أن نقارن بين عبد الناصر وغيره من رؤساء مصر اللاحقين، الذين تركوا أراضى الدولة نهبا للأقارب والمحاسيب.. وفتحوا لهم كل باب يمكن أن يدخلوا منه لاستغلال النفوذ والتربح. والتكويش على الثروات أو الأرصدة فى البنوك..! قارنوا بين قصص الفساد التى تخرج هذه الأيام من مكتب النائب العام والكسب غير المشروع.. وبين قصص النزاهة والزهد التى سجلتها كتب التاريخ عن عبد الناصر وعصره، لتدركوا الفرق بين رئيس كان منا ولنا.. ورئيس ليس كذلك..!!