حدث أن استوقف أحد القراء الروائي الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير، طالبا نصيحته بصدد القراءة، فنصحة بجملة موجزة، قال: " لا تقرأ مثل الأطفال من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين بغرض التعلم، أقرأ كي تعيش"... أما الروائي الأمريكي أرسكين كالدويل فكان يقول:"دائما ما تصبح الكتب التي اقرؤها جزءاً من تجاربي الشخصية، فأتخيل أنني عشتها في حياتي". أعتقد أن الكاتب المصري أحمد رجب شلتوت تمثل هاتين المقولتين ، وهو بصدد كتابة المقالات التي احتواها كتابه الأخير "رشفات من النهر"، فالكتاب الصادر مؤخرا عن وكالة الصحافة العربية / ناشرون، يضم ستا وعشرين مراجعة لكتب صدرت خلال العامين الأخيرين، وتكشف الكتب نفسها بتوزعها بين الأدب والفكر، وبين المكتوب باللغة العربية أو المترجم إليها، وبين العواصم العربية العديدة الصادرة فيها، عن ذائقة كاتبها وعن عمق ارتباطه بالكتب وبعملية القراءة، يقول الكاتب في تقديمه للكتاب "والحقيقة أن الكتب لم تسهم فقط في تشكيل حياتي بل كانت هي الحياة نفسها"، فعلاقته بالكتب بدأت منذ بداية وعيه بالحياة، وقد أرجع السبب لظروف صحية شخصية أبانت عنها المقدمة، فالكاتب تعرض لعزلة إجبارية بسبب إعاقته الحركية، يقول "جدي كان يخرج بي للدكان، يضعني فوق المقعد فأنشغل بكلامه وكلام من يرافقونه، ولما أضيق بصمتي أنطق طالبا أن ينزلني فيضعني بين ربطات كتب يكومها في جانب الدكان، يفكها كلما احتاج ليصنع منها قراطيس أو لفافات لما يبيع، اعتدت التقليب فيها متوقفا عند الصور إن كانت هناك صور. وأبي كان يمنحني أجازاته، يحضر لي من "باب الحديد" كتبا لتعليم المطالعة وكراسات وأقلام رصاص، كانت تلك هداياه في كل الأجازات، يقضي إجازاته في تعليمي القراءة، فأجدتها قبل أن أدخل المدرسة، فلما تمكنت من القراءة أحضر لى قصصا، فتجاوزت علاقتي بالكتب مرحلة مشاهدة الصور". الكتاب الأول "لاشيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً"، أعتقد أن الروائي الإسباني كارلوس زافون لم يبالغ في تلك المقولة، والكاتب نفسه يكاد يقولها بصيغة أخرى حينما يتحدث عن أول كتاب غير مدرسي قرأه وهو في مطلع صباه، الكتاب هو "بساط الريح" لكاتب الأطفال الرائد "كامل كيلاني"، والقصة تحكي عن ذلك البساط السحري الذي يصبح وسيلة نقل جوي للأفراد، لقدرته على الطيران. لم يفتتن بالكتاب لمجرد أن القصة راقته، بل لأن إعاقته تربط جسده بالمكان بينما البساط السحري حرر خياله وأطلقه في الفضاء، وهكذا تواترت الكتب وتراكمت فتكونت عشوائيا مكتبته الأولى، لم تكن مكتبة بالمعنى التقليدي، يقول الكاتب و"كنت أدعو الحجرة الملأى بالكراتين مكتبة، مبررا بأن الاسم مشتق من الكتب، ولو كان مشتقا من الأرفف الخشبية لأسموها مخشبة". أما الغرفة نفسها فصارت واحته، يقصدها دائما ، يقول عنها "بدت لي كنهر كان لابد أن أنزل إليه لأغتسل من أساي، وأرشف منه رشفات تبل صداي، وهو نهر لايفقد تجدده ولا تأثيره على روحي، كل يوم ألوذ به بعد الرجوع من مكان وظيفتي، فأقضي به بقية يومي ويمنحني هو زادا أواصل به حياتي". نبع الأدب إذا كانت المعرفة نهرا يرتشف منه الكاتب، فنبع الأدب يشكل واحدا من أهم الروافد التي تغذي ذلك النهر، لذلك نجد الأدب حاضرا في ثلثي مقالات الكتاب، وقد افتتح الكاتب فصول كتابه بالروائي الروسي الخالد"فيودور دوستويفسكي" فكان الفصل الأول عن كتاب التأرجح على الهاوية: العام الأخير من حياة دوستويفسكي" للناقد "إيجور فولجين، الذي كرس كتابه لدراسة علاقة دوستيفسكي بعالم الثورة الروسية، مركزا على المرحلة الختامية منها، فدوستويفسكي " لم يكن شاهدا متفرجا على هذه الدراما، بل أصبح طرفا فيها، وبطلا من أبطالها إلى حد ما". وفي فصل تال يعرض لكتاب يضم عبر مجلدين رسائل دوستويفسكي، ومن المعروف أن الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين تكتسب أهميتها من قدرتها على كشف الجوانب الذاتية لهم، فالرسائل مكتوبة لم تكتب بغرض النشر، بل للتواصل الشخصي بين الأديب وشخص ما من المقربين له ، لهذا فهي تكشف للباحثين ذلك الجانب الخفي من ذوات المبدعين، خصوصا في حالة ديستويفسكي الذي وصف بأنه أكثر الأدباء ذاتية. ورسائل دوستيفسكي فضلا عن قيمتها الأدبية لا تخلو من قيمة تاريخية خاصة بما تتيحه من معلومات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب تحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جوانب من شخصيته التي جمعت بين الزهد والسخط. كما تظهر انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة حتى تلك التي تبدو بلا أهمية، فتدلل على قدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، و تلك التي وجدت لها فيما بعد مكانا في رواياته. كذلك ينشغل الكاتب بالعملية الإبداعية وبشهادات المبدعين عن تجاربهم فيعرض لعدد من الكتب في هذا الاتجاه منها "بيت حافل بالمجانين"، و"اليوم المثالي للكتابة"، و "حياة الكتابة"، كما يعرض لأكثر من كتاب عن علاقة علم النفس بالأدب وبالسينما والمسرح، ويتوقف مطولا عند كتاب طريف ابتداء من عنوانه "ماذا لو غيّرت الأعمال الإبداعية مؤلفيها؟"، للمفكر والمحلل النفسي الفرنسي"بيير بايارد" الذي اعتاد على تقديم كتب مثيرة للجدل، يمنحها دائما عنوانا طريفا يبدأه بأداة إستفهام، ويتعمد أن يبدو وكأنه يمارس لعبة نقدية مثيرة، مثل: " كيف تستطيع تجويد الأعمال الأدبية السيئة؟" و " كيف تتحدث عن الكتب التي لم تقرأها بعد؟". بايارد في كتابه الجديد لا يتحدث -كما قد يوحي العنوان - عن الأثر الذي يمكن أن يتركه العمل الأدبي في نفس مؤلفه، فيغير منه، بل يجيب عن سؤال طريف كعادة أسئلة بايارد، وهو: "ماذا لو استبدلنا مؤلفاً بمؤلف آخر، قد يبدو أكثر ملاءمة للعمل الأدبي؟". وتتوالي الرشفات من نهر المعرفة، شرقا وغربا، فيقرأ للكاتبة الأمريكية ذات الأصول الإيرانية " آذر نفيسي"كتابها جمهورية الخيال راصدا للهوة السحيقة بين الخيال والحقيقة، ويزور مع العراقية لطفية الدليمي مملكة الروائيين العظام هسة وكازنتزاكيس وماركيز.