محمد فريد: 80% من البالغين يستخدمون الخدمات المالية الرقمية    رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي يدعو لمظاهرة حاشدة الخميس للمطالبة بإنهاء حرب غزة    المستشار الألماني يصف مجددا الوضع في قطاع غزة المحاصر: لم يعد من الممكن قبوله    زيزو: انتظروا نسخة مختلفة.. أنا جعان للفوز بكل الألقاب مع الأهلي    محافظ المنوفية ل أوائل الثانوية العامة الستة بالمحافظة: شرفتونا وفرحتنا بكم كبيرة    آمال ماهر تتصدر التريند ب8 أغانٍ بعد 48 ساعة من إصدارها ألبومها الجديد حاجة غير    لا خروقات في وقف إطلاق النار بالسويداء    الذكاء الاصطناعى فى القضاء.. هل يحقق العدالة ؟    أمين تنظيم تحالف الأحزاب المصرية: ثورة 23 يوليو علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث    طلبات لتوفير فرص عمل وشكاوى حول توصيلات الصرف الصحي في لقاء جماهيري بمحافظة القليوبية    «الصامت الضاحك».. أحمد نبيل يتحدث عن رحلته في فن البانتومايم وقرار الاعتزال    نانيس أيمن تكتب: المهرجان القومي للمسرح المصري في دورته 18 هل يحقق أهدافه أم لا؟    كوبليه رحيم المحذوف.. تامر حسين ينشر كواليس لأول مرة من «الذوق العالي» (فيديو)    محافظ المنيا يوجه بتوفير كرسي متحرك لمريض خلال جولته بمستشفى الفكرية التخصصي بأبو قرقاص    حالتان يجوز فيهما إفشاء الأسرار.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    تعليم دمياط يضع اللمسات الأخيرة لاستقبال طلاب الخدمات بالمدارس الثانوية    3 أطعمة لخفض الكوليسترول يجب إضافتها إلى نظامك الغذائي    استشاري تغذية علاجية: «الفاكهة خُلقت لتؤكل لا لتُشرب»    رئيس مجلس الشيوخ: حاولنا نقل تقاليد العالم القضائي إلى عالم السياسة    بالفيديو.. رقص محمد فراج وريهام عبدالغفور من كواليس "كتالوج" وبسنت شوقي تعلق    اعتماد أولى وحدات مطروح الصحية للتأمين الشامل.. وتكامل حكومي - مجتمعي لرفع جودة الخدمات    أوكرانيا تراهن على الأصول الروسية والدعم الغربي لتأمين الإنفاق الدفاعي في 2026    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى: الإيذاء للغير باب خلفي للحرمان من الجنة ولو كان الظاهر عبادة    أهم أخبار الكويت اليوم.. ضبط شبكة فساد في الجمعيات التعاونية    «انتهت رحلتي».. نجم اتحاد طنجة يوجه رسالة إلى جماهيره قبل الانتقال للزمالك    عبد الحميد معالي يودع جماهير اتحاد طنجة قبل انتقاله المنتظر إلى الزمالك    الجريدة الرسمية تنشر قرارين للرئيس السيسي (تفاصيل)    انطلاق المبادرة الوطنية للتطعيم ضد السعار من الإسماعيلية    «في فرق كبير والتاني بيستخبي».. عبدالحفيظ يعلّق على تصرفات إمام عاشور وفتوح    وزير قطاع الأعمال يبحث مع هيئة الشراء الموحد التعاون بقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    الداخلية تواجه سرقة التيار الكهربائي ب4120 قضية في يوم واحد    حملات مكثفة على مخابز الوادي الجديد ومتابعة تطبيق مبادرة حقك بالميزان    البورصة المصرية تخسر 12.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    انتظام محمد السيد في معسكر الزمالك بالعاصمة الإدارية    وزيرة التخطيط تلتقي ممثلي شركة ميريديام للاستثمار في البنية التحتية لبحث موقف استثمارات الشركة بقطاع الطاقة المتجددة    نقابة أطباء قنا تحتفل بمقرها الجديد وتكرم رموزها    مصرع دكتور جامعي وإصابة 5 من أسرته في حادث مروع بالمنيا    الصحة: إغلاق خمسة فروع لعيادة "بيلادونا ليزر كلينك" للتجميل والعلاج بالليزر    «هو لازم تبقى لوغاريتمات».. شوبير ينتقد الزمالك بسبب عرضي دونجا وصبحي    تنسيق كلية تجارة 2025 علمي وأدبي.. مؤشرات الحد الأدنى للقبول بالجامعات    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    افتتاح نموذج مصغر للمتحف المصري الكبير بالجامعة الألمانية في برلين (صور)    مصر وفرنسا تبحثان سُبل تعزيز التعاون في مجال الطيران المدني    بعد أيام.. موعد وخطوات ورابط نتيجة الثانوية الأزهرية    فيلم الشاطر ل أمير كرارة يحصد 22.2 مليون جنيه خلال 6 أيام عرض    خاص| دنيا سامي: نفسي أعمل "أكشن كوميدي".. ومبسوطة بنجاح مصطفى غريب    طقس السعودية اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025.. أجواء شديدة الحرارة    اجتماع طارئ بجامعة الدول العربية لبحث الوضع الكارثي في غزة    استخراج جثامين طفلين من الأشقاء المتوفين في دلجا بالمنيا    الخطيب يطمئن على حسن شحاتة في لفتة إنسانية راقية    العش: معسكر تونس مفيد.. ونتطلع لموسم قوي مع الأهلي    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى الرئيس النيجيري    «حرب الجبالي» الحلقة 43 تتصدر التريند.. أسرار تنكشف وصراعات تشتعل    10 تيسيرات من «الداخلية» للمُتقدمين للالتحاق بكلية الشرطة 2025    من الهند إلى أوروبا.. خطة سرية كبرى بين نتنياهو وترامب لليوم التالي بعد إنهاء الحرب في غزة    فلسطين.. 15 شهيدًا في قصف إسرائيلي استهدف خيام نازحين بمخيم الشاطئ غرب غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة والجينات الثقافية
نشر في نقطة ضوء يوم 31 - 05 - 2018

نزعم في هذا المقال أن المرء مثلما يرث الجينات البيولوجية من أجداده يرث أيضا جينات ثقافية مقبلة من بعيد؛ ومن غير الممكن أن يتنصل منها بيُسر فهي مقيمة في موضع ما من تركيبته الثقافية ويدافع المرء عنها بشراسة، بما هي مكون أساسي من بنيته الثقافية، حتى إن كان فيها من الأفكار ما يتعارض مع العرف العلمي السائد في عصر من العصور.
سوف ننطلق لبيان هذه الفكرة من حدث بسيط هو الاعتقاد في ارتباط الكمال اللغوي بالنبوة، الذي يصاغ بشكل عام في مبدأ معروف نصه: لا يحيط بلغة إلا نبي.
تبث قناة تلفزيونية تونسية مسلسل «يوسف الصديق» مدبلجا باللهجة التونسية ويلاقي الأمر استهجانا واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي؛ فلم تقبل الذائقة العامة أن يتكلم الأنبياء وأهلوهم وحتى أعداؤهم بلغتهم اليومية، يريدون أن يسمعوهم باللغة العربية الفصحى لأنها في رأيهم اللغة الأرقى التي تناسب مقام الأنبياء.
وأن يتكلم النبي يوسف عليه السلام بلهجة تونسية يومية فذلك يعد في أذهانهم شيئا فريا، ولهذا يطالب بعضهم بإيقاف بث المسلسل بلهجته التونسية.
كثيرون ممن انخرطوا في هذا السخط اللغوي – الديني كانوا مثقفين من أصحاب الشهادات الجامعية ومنهم من درس ولا شك وهو على طاولات الجامعة شيئا من مبادئ اللسانيات يقول إنه لا تفاضل بين الألسن ولا بين الألسن واللهجات، وأنه لا توجد لغة فصيحة وأخرى أقل أو أكثر فصاحة وأنه ما من متكلم إلا وهو فصيح بلسانه، وأن نطق الممثلين في مسلسل «يوسف الصديق» بلسان عربي فصيح أو بلهجة عامية عربية لا يُزري بإحداهما ويرفع الأخرى، وأنه مثلما تكلم النبي يوسف أو غيره من الأنبياء (عليهم السلام) بألسنتهم اليومية يمكن أن تترجم أعمالهم إلى ألسنتنا اليومية.
هذه النتائج يمكن أن يقبلها المرء المتعلم على أساس أنها معطى نظري؛ غير أن داخل كيانه الثقافي جيناتٍ ترفض أن يجري الأمر على ما تقرر في العلم. هناك أشياء نتفهمها ولكننا لا نستطيع أن نتخلى عنها، لأنها في جيناتنا الثقافية.
فما الذي في هذه الجينات حول علاقة اللغة بالنبوة؟ وما هي مصادره القديمة؟
جيناتنا الثقافية كجيناتنا البيولوجية أقدم من أن تكون بنت الأمس، ولا بنت القرن الماضي، وأبعد من أن تكون ولدت قريبا من هنا، لكنها رغم ذلك تحدد سمة أساسية لكائن ثقافي حي.
أقدم الجينات الثقافية مقبلة من المعتقدات القديمة، وهي راسخة فينا، ومنها كثير من الأفكار عن علاقة النبوة باللغة. من أقدم النصوص المعبرة عن ذلك ما نجده في العهد الجديد على لسان بولس الرسول في بعض رسائله إلى كنيسة كورنثوس. لقد وجدنا لديه ربطا مفيدا بين مهمة الرسول والنبي من ناحية، واللغة من أخرى، وكيف أن اللسان يمكن أن يكون مميزا بين المؤمنين وغير المؤمنين.
في الفصل الأول من الأصحاح الرابع عشر يطلب بولس الرسول من الكورنثين ألا يكتفوا بأن يتكلموا بألسنتهم، بل أن يستعملوها في التنبؤ لأن: «من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة».
وهذا يعني أن من يتكلم بلسان صفنان: صنف يتكلم ولا يتنبأ، وصنف يتكلم ويتنبأ.
والنبوة تعني ههنا الوعظ الذي يرعاه في الأصل نبي أو رسول يتكلم فيه باسم الرب.
وهي تعني الخطاب البين الذي يؤسس للإيمان بالرب الواحد.
فالتنبؤ هو الكلام الحقيقي، لأنه كلام باسم الله وهذا هو الأصل، لأن من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله وبكلامه الله يبني نفسه».
إن اللغة من غير نبوءة هي في الحقيقة أصوات مبهمة هي كالأصوات في المزمار، فارقت مواقعها التي تصنع منها لحونا. الكلام حين تبث فيه المعاني الربانية يكون ذا معنى فإن غادرته صارت كلاما بلا معنى.
هذا حفر جيني ثقافي أول عن قداسة اللغة يجعلها ذات صلة بالنبوة، وبها ينفصل من يتكلم بلسان لا نبوة فيه، ومن يتكلم بلسان فيه نبوة، لذلك يلح بولس الرسول على أنه حين يتكلم يعلم ويوضح ويبين ولا يصدر أصواتا بلا روح فيقول: «فالآن أيها الإخوة، إن جئت إليكم متكلما بألسنة، فماذا أنفعكم، إن لم أكلمكم إما بإعلان، أو بعلم، أو بنبوة، أو بتعليم». إن النبوة تعني ههنا ما كانت تعنيه في اليونانية القديمة من نقل إرادة الله وكلامه ونشره على الملأ؛ ومن يتكلم يكون الناطق باسم الله. التنبؤ ليس إذن التكهن بما سيحدث مستقبلا بل نقل كلام الله.
لكن هذا الحفر الذي يميز بين متكلم اللسان ومتكلم بالوحي – وهو تمييز طبقي بحسب التدرج بين البشرية والنبوية – ليس إلا وجها يخفي طبقة أعلى منه تفسر أكثر من غيرها قداسة اللغة إن اتصلت بالرب؛ فلقد ورد في العهد القديم: «إني بذوي ألسنة أخرى وبشفاه أخرى سأكلم هذا الشعب، ولا هكذا يسمعون لي يقول الرب». يتكلم الرب على ألسنة الناس مهما كانت لغاتهم التي تكلموا بها وعندئذ سينماز المستمعون: هناك المؤمن الذي سيسمع الوحي عبر تلك الألسنة المختلفة أي سيسمع صوت الرب؛ وهناك غير المؤمن الذي لن يسمع إلا اللغات، وسيحتجب عنه صوت الرب. الفريق الأول هم الناجون لأنهم مؤمنون، والفريق الثاني هم الهالكون فصوت الروح قد حجب عنهم وبقيت الألسن بلا روح.
لهذا فإن «الألسنة آية، لا للمؤمنين، بل لغير المؤمنين. أما النبوة فليست لغير المؤمنين، بل للمؤمنين». اللغات رسولية فمن يؤمن يسمع صوت الله حتى في لغات لا يفهمها فيؤمنون ويقولون إن الله بيننا، أما الآخرون فيقولون عنهم إنهم مجانين. هناك لغة وهناك «قوة» في اللغة، قوتها هي التي تجعلها غير أعجمية؛ وقوتها أن تبين عن صوت الرب هي علامة على أن الله حاضر فيها لذلك يقول الرسول بولس «فإن كنت لا أعرف قوة اللغة أكون عند المتكلم أعجميا، والمتكلم أعجميا عندي».
يتكلم الرب على الألسن المختلفة بالوحي ويمكن أن يُنطق أيا كان بها. ومعجزة المسيح في القرآن ليس فقط لأنه تكلم في المهد، بل لأنه نطق باسم الرب هو الذي لم ينتطق بعدُ بلسان أهله.
وهذه درجة من الإعجاز أعلى من أن يتكلم الله بألسنة مختلفة فيهتدي المؤمنون إلى المعاني الربانية المرسلة ويتعجب غيرهم من ذلك بأشكال مختلفة. ولقد كان التعجب موصوفا بوضوح في القرآن إذ قال تعالى على لسان أهل مريم: «كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟».
يتضح مما سبق إذن أن تشبث التونسيين بأن اللغة التي يُتحدث بها في مسلسل النبي يوسف الصديق عليه السلام ينبغي أن تكون راقية والراقي عندهم هو الفصيح. ينبغي أن تكون راقية لأنها متلبسة بالوحي.
هذا الرمز هو في جيناته الثقافية ثابت لا يمكن أن يلغيه العلم الذي يلغي الفوارق بين اللغات واللهجات. لكن أليس في الجينات الثقافية نفسها أنه على المؤمن ألا يسمع الألسنة، بل أن يسمع الوحي الذي خلفها؟ أم أن هذه الشيفرة الجينية بليت بحكم الزواج المتعدد ثقافيا؟
_____________
"أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.