نزعم في هذا المقال أن المرء مثلما يرث الجينات البيولوجية من أجداده يرث أيضا جينات ثقافية مقبلة من بعيد؛ ومن غير الممكن أن يتنصل منها بيُسر فهي مقيمة في موضع ما من تركيبته الثقافية ويدافع المرء عنها بشراسة، بما هي مكون أساسي من بنيته الثقافية، حتى إن كان فيها من الأفكار ما يتعارض مع العرف العلمي السائد في عصر من العصور. سوف ننطلق لبيان هذه الفكرة من حدث بسيط هو الاعتقاد في ارتباط الكمال اللغوي بالنبوة، الذي يصاغ بشكل عام في مبدأ معروف نصه: لا يحيط بلغة إلا نبي. تبث قناة تلفزيونية تونسية مسلسل «يوسف الصديق» مدبلجا باللهجة التونسية ويلاقي الأمر استهجانا واسعا على شبكات التواصل الاجتماعي؛ فلم تقبل الذائقة العامة أن يتكلم الأنبياء وأهلوهم وحتى أعداؤهم بلغتهم اليومية، يريدون أن يسمعوهم باللغة العربية الفصحى لأنها في رأيهم اللغة الأرقى التي تناسب مقام الأنبياء. وأن يتكلم النبي يوسف عليه السلام بلهجة تونسية يومية فذلك يعد في أذهانهم شيئا فريا، ولهذا يطالب بعضهم بإيقاف بث المسلسل بلهجته التونسية. كثيرون ممن انخرطوا في هذا السخط اللغوي – الديني كانوا مثقفين من أصحاب الشهادات الجامعية ومنهم من درس ولا شك وهو على طاولات الجامعة شيئا من مبادئ اللسانيات يقول إنه لا تفاضل بين الألسن ولا بين الألسن واللهجات، وأنه لا توجد لغة فصيحة وأخرى أقل أو أكثر فصاحة وأنه ما من متكلم إلا وهو فصيح بلسانه، وأن نطق الممثلين في مسلسل «يوسف الصديق» بلسان عربي فصيح أو بلهجة عامية عربية لا يُزري بإحداهما ويرفع الأخرى، وأنه مثلما تكلم النبي يوسف أو غيره من الأنبياء (عليهم السلام) بألسنتهم اليومية يمكن أن تترجم أعمالهم إلى ألسنتنا اليومية. هذه النتائج يمكن أن يقبلها المرء المتعلم على أساس أنها معطى نظري؛ غير أن داخل كيانه الثقافي جيناتٍ ترفض أن يجري الأمر على ما تقرر في العلم. هناك أشياء نتفهمها ولكننا لا نستطيع أن نتخلى عنها، لأنها في جيناتنا الثقافية. فما الذي في هذه الجينات حول علاقة اللغة بالنبوة؟ وما هي مصادره القديمة؟ جيناتنا الثقافية كجيناتنا البيولوجية أقدم من أن تكون بنت الأمس، ولا بنت القرن الماضي، وأبعد من أن تكون ولدت قريبا من هنا، لكنها رغم ذلك تحدد سمة أساسية لكائن ثقافي حي. أقدم الجينات الثقافية مقبلة من المعتقدات القديمة، وهي راسخة فينا، ومنها كثير من الأفكار عن علاقة النبوة باللغة. من أقدم النصوص المعبرة عن ذلك ما نجده في العهد الجديد على لسان بولس الرسول في بعض رسائله إلى كنيسة كورنثوس. لقد وجدنا لديه ربطا مفيدا بين مهمة الرسول والنبي من ناحية، واللغة من أخرى، وكيف أن اللسان يمكن أن يكون مميزا بين المؤمنين وغير المؤمنين. في الفصل الأول من الأصحاح الرابع عشر يطلب بولس الرسول من الكورنثين ألا يكتفوا بأن يتكلموا بألسنتهم، بل أن يستعملوها في التنبؤ لأن: «من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة». وهذا يعني أن من يتكلم بلسان صفنان: صنف يتكلم ولا يتنبأ، وصنف يتكلم ويتنبأ. والنبوة تعني ههنا الوعظ الذي يرعاه في الأصل نبي أو رسول يتكلم فيه باسم الرب. وهي تعني الخطاب البين الذي يؤسس للإيمان بالرب الواحد. فالتنبؤ هو الكلام الحقيقي، لأنه كلام باسم الله وهذا هو الأصل، لأن من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله وبكلامه الله يبني نفسه». إن اللغة من غير نبوءة هي في الحقيقة أصوات مبهمة هي كالأصوات في المزمار، فارقت مواقعها التي تصنع منها لحونا. الكلام حين تبث فيه المعاني الربانية يكون ذا معنى فإن غادرته صارت كلاما بلا معنى. هذا حفر جيني ثقافي أول عن قداسة اللغة يجعلها ذات صلة بالنبوة، وبها ينفصل من يتكلم بلسان لا نبوة فيه، ومن يتكلم بلسان فيه نبوة، لذلك يلح بولس الرسول على أنه حين يتكلم يعلم ويوضح ويبين ولا يصدر أصواتا بلا روح فيقول: «فالآن أيها الإخوة، إن جئت إليكم متكلما بألسنة، فماذا أنفعكم، إن لم أكلمكم إما بإعلان، أو بعلم، أو بنبوة، أو بتعليم». إن النبوة تعني ههنا ما كانت تعنيه في اليونانية القديمة من نقل إرادة الله وكلامه ونشره على الملأ؛ ومن يتكلم يكون الناطق باسم الله. التنبؤ ليس إذن التكهن بما سيحدث مستقبلا بل نقل كلام الله. لكن هذا الحفر الذي يميز بين متكلم اللسان ومتكلم بالوحي – وهو تمييز طبقي بحسب التدرج بين البشرية والنبوية – ليس إلا وجها يخفي طبقة أعلى منه تفسر أكثر من غيرها قداسة اللغة إن اتصلت بالرب؛ فلقد ورد في العهد القديم: «إني بذوي ألسنة أخرى وبشفاه أخرى سأكلم هذا الشعب، ولا هكذا يسمعون لي يقول الرب». يتكلم الرب على ألسنة الناس مهما كانت لغاتهم التي تكلموا بها وعندئذ سينماز المستمعون: هناك المؤمن الذي سيسمع الوحي عبر تلك الألسنة المختلفة أي سيسمع صوت الرب؛ وهناك غير المؤمن الذي لن يسمع إلا اللغات، وسيحتجب عنه صوت الرب. الفريق الأول هم الناجون لأنهم مؤمنون، والفريق الثاني هم الهالكون فصوت الروح قد حجب عنهم وبقيت الألسن بلا روح. لهذا فإن «الألسنة آية، لا للمؤمنين، بل لغير المؤمنين. أما النبوة فليست لغير المؤمنين، بل للمؤمنين». اللغات رسولية فمن يؤمن يسمع صوت الله حتى في لغات لا يفهمها فيؤمنون ويقولون إن الله بيننا، أما الآخرون فيقولون عنهم إنهم مجانين. هناك لغة وهناك «قوة» في اللغة، قوتها هي التي تجعلها غير أعجمية؛ وقوتها أن تبين عن صوت الرب هي علامة على أن الله حاضر فيها لذلك يقول الرسول بولس «فإن كنت لا أعرف قوة اللغة أكون عند المتكلم أعجميا، والمتكلم أعجميا عندي». يتكلم الرب على الألسن المختلفة بالوحي ويمكن أن يُنطق أيا كان بها. ومعجزة المسيح في القرآن ليس فقط لأنه تكلم في المهد، بل لأنه نطق باسم الرب هو الذي لم ينتطق بعدُ بلسان أهله. وهذه درجة من الإعجاز أعلى من أن يتكلم الله بألسنة مختلفة فيهتدي المؤمنون إلى المعاني الربانية المرسلة ويتعجب غيرهم من ذلك بأشكال مختلفة. ولقد كان التعجب موصوفا بوضوح في القرآن إذ قال تعالى على لسان أهل مريم: «كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟». يتضح مما سبق إذن أن تشبث التونسيين بأن اللغة التي يُتحدث بها في مسلسل النبي يوسف الصديق عليه السلام ينبغي أن تكون راقية والراقي عندهم هو الفصيح. ينبغي أن تكون راقية لأنها متلبسة بالوحي. هذا الرمز هو في جيناته الثقافية ثابت لا يمكن أن يلغيه العلم الذي يلغي الفوارق بين اللغات واللهجات. لكن أليس في الجينات الثقافية نفسها أنه على المؤمن ألا يسمع الألسنة، بل أن يسمع الوحي الذي خلفها؟ أم أن هذه الشيفرة الجينية بليت بحكم الزواج المتعدد ثقافيا؟ _____________ "أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية".