حتى نهاية مايو المقبل، يحتفي متحف الفن الحديث بباريس بفنان منسيّ، هو الفرنسي جان فوتريي (1898-1964)، هذا الفنان الذي قال عنه أندري مالرو إنه يذكّر بغويا، لا سيما في مرحلته الأولى التي أنجز خلالها سلسلة “رهائن”، وهي جملة من اللوحات استوحاها فوتريي من تجربته الشخصية حينما كان يسترق السمع إلى عمليات القتل التي كان الألمان يرتكبونها ضد أسراهم، وسجل ما انطبع في ذهنه من أصداء الطلقات النارية والصراخ والأنين، فكانت اللوحات صورة عن كتل لا شكل لها ولا دلالة سوى بعض التفاصيل الموحية كبقع الدم والأعضاء المبتورة. هذا المبتكِر المتفرد العصي على التصنيف، عدّه المتخصصون وجها بارزا في الفن التشكيلي خلال القرن العشرين، ولكنه ظل مجهولا لدى هواة الفن وعشاقه، والسبب فيما يذكر بعض المؤرخين أن فوتريي كان تيّاها يبالغ في الاعتداد بنفسه، مثلما كان سيئ الطبع، لا تطاق صحبته. ولعل مرد ذلك إلى طفولته، فقدْ فقدَ أباه وهو في العاشرة، ثم التحق بأمه في لندن عام 1912، حيث انخرط في الأكاديمية الملكية للفنون، واكتشف لاحقا أعمال البريطاني وليم تورنر، لا سيما لوحاته المائية ذات الضوء المخصوص، التي ستنطبع في أعماله لاحقا. واضطر في العام 1917 إلى العودة إلى فرنسا من أجل الخدمة العسكرية، فشارك في الحرب، وأصيب بالغازات السامة، ما فرض تسريحه، فانتقل بعد الحرب إلى منطقة الألب العليا، وأقام ما بين تيرول وسافْوى، وهناك أنجز سلسة لوحات صغيرة تمثل البحيرات والأودية الجليدية، يتجلى فيها تأثره بتورنر، وبدأت أعماله تلقى الاهتمام، حتى أنه شارك في معرض ضم موديلياني وشئيم سوتين، غير أن الأزمة المالية التي اندلعت عام 1929 أفسدت تلك البداية الواعدة. وفي تلك الفترة العصيبة، التقى بالأديب أندري مالرو، فساعده على عرض بعض لوحاته ومنحوتاته في أروقة المكتبة الوطنية، ولكن الضيق المادي دفعه إلى هجر باريس للاستقرار بمنتجع تيني، حيث اشتغل مدربا في التزحلق على الثلج، ثم مشرفا على تسيير فندق وملهى ليلي. وهناك واصل تجاربه على المادة، وطوّر أسلوبه بجعل الجبس واللصق في وسط ورقة يتولى شرطها ونحتها، ثم يضيف إليها الدهن المائي والزيتي، لتصبح المادة رسما زيتيا، وموضوعا، دون التخلي عن الواقع، كما في سلسلة “الرهائن”، ولكن الجمهور لم يُقبل على تلك الأعمال رغم جمالها، لأنه لم يفهم كيف يمكن استعمال ألوان زاهية صافية في موضوع قاتم، وحتى النقاد كانوا محرجين أمام الجمالية التي أضفيت على الضحايا. ولما عاد إلى باريس عام 1940، تعرّف على الناقد والناشر جان بولان، والشاعر فرنسيس بونج، فكانا له خير سند، حتى عندما تطلّب الأمر إخفاءه عن عيون الغيستابو في ضاحية شاتني مالابري، حيث أقام حتى وفاته. وهناك بدأ سلسلة جديدة عن الأشياء البسيطة، كالأكواب والأقداح وعلب التصبير وصناديق الورق المقوى والقناني، ليمنحها حضورا وحياة، حتى لكأنها كائنات حية، بل آدمية، ثم عاد إثرها إلى الرسم عن ثيماته المفضلة كالرؤوس والعري والمناظر الطبيعية والأشياء مركزا على الواقعية. وتندرج أعمال فوتريي في مرحلة ما بين الحربين، وقد تأثر كثيرا، مثل سائر من سحقتهم الحرب العالمية الأولى، بفظاعات الحرب ومآسي البشر، فرسم منذ العشرينات أناسا بسطاء، ذوي ملامح كالحة، يعلوها البؤس والشقاء، في لوحات قاتمة تذكّر بالفن الفلمندري في القرن السابع عشر، إذ كان حريصا على نقل أثر الحرب في حياة الناس، يركز في رسم بروتريهاته على ألوان الحِداد، مازجا بين الرمادي والأسود والبنفسجي. ولكن عُرف عن فوتريي عدم التزامه بمذهب، ينهل من غويا، مثلما ينهل من رمبرانت ووليم تورنر وجان سيميون شاردان، ولذلك وُصف بمبتكر الفن الفوضوي، بمعنى الفن الذي لا يخضع لشكل أو نظام أو قانون، فهو ينطلق من حدث واقعي، من وضعية، ويتصوّر أشكالا تجريدية مع الحرص على الاشتغال على المادة، تاركا لنفسه حرية الارتجال والسير في سبل مجهولة دون سابق تخطيط. وفي هذا المعرض مئتا أثر فني، من بينها مئة وستون لوحة، إضافة إلى الرسوم والحفريات والمنحوتات، لاكتشاف هذا الفنان المجدّد، الذي رفض السريالية والتصويرية والتجريدية الزخرفية، وأحدث على طريقته ثاني ثورة في الفنون التشكيلية خلال القرن العشرين بعد التكعيبية، ولعل ذلك ما جعل النقاد والجمهور يتجاهلون عبقريته، رغم أن فنانين كبارا كالألماني بازليتش والفرنسي جان دوبوفيه يعترفون بفضله عليهم.