«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واقعية ما بعد الحداثة: هل يقف التشكيل العربي على عتبة جديدة
نشر في نقطة ضوء يوم 27 - 02 - 2018

لم يستطع الفن ما بعد الحداثي بكل أنواعه، بما فيها تلك الأكثر غرابة، أن يجعل من الفن الواقعي فنا عفى عنه الزمان ومضى، بل على العكس من ذلك، يُمكن اعتبار انتشار الفن ما بعد الحداثي أحد الأسباب التي أدت إلى ولادة جديدة للبعد الواقعي في فن قادر على أن يعكس عصره مثله مثل أي فن “ثوري” وجديد بكليته على الساحة الفنية. وقد لوحظ ذلك في السنوات الأخيرة من خلال ولادة فنانين معاصرين اتخذوا من الفن الواقعي منطلقا لهم لتأسيس نظرات جديدة إلى ذواتهم، وإلى العالم المحيط.
ليس من السهل تحديد ماهية الواقعي في الفن، لا سيما أن الواقعية تاريخيا مرّت بمراحل تحول عديدة وصولا إلى انبعاثها مجددا في أعمال معاصرة.
ولادة حملت في تركيبتها معظم جينات “الواقعيات” الفنية السابقة التي نذكر بعضها هنا: الواقعية الميثولوجية، وسيدها على الإطلاق الفنان الإيطالي كرافاجيو، والواقعية الاشتراكية التي لُقبت بالواقعية الجديدة وإن لم تحمل وحدها هذا اللقب، إذ جاءت بعدها الواقعية الفرنسية الأصل لتحتل مكانة مهمة ألقت بظلها على الفنون التي تلت.
يذكر أن الواقعية الإشتراكية جاءت كردة فعل على الرومانسية، والواقعية السطحيّة، وتميزت بنظرة اجتماعية صورت الفوارق الطبقية وأثرها على المجتمعات بشكل عام، واتخذت من الأدب الواقعي مصدر وحي رئيسي لها، لأنه تناول قدر الإنسان وأزماته الوجودية والاجتماعية والنفسية. هناك أيضا الواقعية الأميركية وعلى رأسها فنانون من أمثال إدوارد هوبر ودافيد هوكني اللذين تناولا الصعوبات التي مر بها المجتمع الأميركي خلال الانهيار الاقتصادي الذي تلى الحرب العالمية.
ونذكر أيضا ما أطلق عليه ب”الواقعية السريالية”، و”البوب آرت” الذي اتصف بانتقاده للواقع الإستهلاكي والطبقة الرأسمالية. نشير إلى أهم فناني هذا التيار وهما جاسبر جونز ودايفيد هوكني.
ولا بد من ذكر “الواقعية المعاصرة” التي ولدت من البوب آرت و”الفوتورياليزم” الذي باختصار شديد اعتمد على استخدام الصور الفوتوغرافية وتحويلها إلى قماشة اللوحة. وأخيرا نذكر “الهيبر ريالتي” التي بدورها انبثقت من “الفوتورياليزم” ولكنها بدت أكثر غنى بفعل الأبعاد النفسية والفلسفية والسياسية التي أدخلها إليها الفنانون.
تجارب يافعة
ما شهدناه مؤخرا من عودة إلى “الفن الواقعي” يؤكد على أن هذه العودة المشغولة بهواجس بيئية وسياسية واقتصادية ونفسية/شخصية، قد تغذت بصريا على “الواقعيات” السابقة. ليس هذا فحسب بل جاءت مُطعمة بالتعبيرية والانطباعية والغرائبية والسحرية دون أن تحيد خطوة واحدة عن جوهرها الواقعي وانشغالاتها التاريخية.
جاءت المعارض الفنية التي أقامتها صالات لبنانية في السنتين الأخيرتين لفنانين معظمهم في بداية حياتهم الفنية، لتؤكد على أن الفن الواقعي هو قادر على أن يكون رأس حربة المُعاصرة في نكىء جراح العالم وفي الكشف عن الأهوال التي آلت إليه.
نذكر من تلك المعارض معرض الفنانة اللبنانية هلا عزالدين التي لم تبلغ السابعة والعشرين من عمرها، وأقامت للمرة الأولى، في أجيال معرضا فرديا بعنوان “فضاءات مواربة”. تنضح الأعمال بعمق النظرة إلى أرواح الأولاد الذين رسمتهم، كما تشي بقدرة الفنانة التعبيرية والتقنية على جعل ما يحيط بهم يتأثر ويتشكل بهم، وليس العكس.
عرّفت الصالة الفنانة بهذه الكلمات “ترسم هلا عزالدين الأولاد الذين علّمتهم في بلدتها عرسال اللبنانية، معظم هؤلاء وصلوا إلى عرسال إبّان انفجار الحرب السورية، بدلا من أن تجعل منهم في رسوماتها دراسات فنية، قدمتهم كشخوص متفاعلين مع محيط حاضر بقوة ويخترق في أحيان عديدة كيانهم الحسيّ ليظلوا هم الأساس وفي القلب من العمل الفني الواحد”.
وأطلقت الفنانة عناوين بسيطة على اللوحات لترصد بها نجوما تضيء بحزن سماء زرقاء عميقة مُكحلة بالأسود واللون البنفسجي، هي نجوم لا تحمل شيئا سوى أسمائها: هلا، منير، شهد، أحمد، نادرة وياسمين.
وتعود لتتكرّر هذه الأسماء/النجوم في لوحات أخرى، على الرغم من أن خلفيات اللوحات تريد أن تظهر خيالات لهياكل عمرانية مقصود بها بلدة عرسال، التي احتضنت همومهم، بينما هي غارقة بهمومها الخاصة. إلاّ أن معظمها تبدو وكأنها تمثيل لمساحات مُجردة من الصفات طغت عليها ألوان داكنة؛ مساحات لا يملكها أحد ولا هي تنتمي إلى جغرافيا محددة، ومن هنا تتحقق جمالية هذه الخلفيات وانفتاحها على إحالات بحجم الوطن العربي كله.
لعل أهم ما يميز لوحات هلا عزالدين أنها مؤلفة من ثلاثة عناصر؛ العنصر الأول هو خلفية اللوحة، والعنصر الثاني هو الشخص المرسوم، أما الثالث فهو هذا التجريح التجريدي الذي مارسته الفنانة بضربات ألوانها بثقة وعاطفة في طول وعرض الأعمال، لتشبك التواطؤ ما بين العناصر الثلاثة، جاعلة من العنصر الأوسط، أي الشخص المرسوم العروة الوثقى ومنبرا لإطلاق شتى الإحالات وتداعيات الصور المُعمّمة لتجربة هؤلاء الأولاد، نجوم اللوحات وأبطالها.
رحيق الضوء
نذكر أيضا معرضا للفنان اللبناني أسامة بعلبكي (مواليد سنة 1978). أكد من جديد على شغف الفنان برسم تحولات الواقع مجبولة برؤاه الشخصية ، وإذا كانت اللوحات التي قدمها في معرضه السابق الذي حمل عنوان “خيالات الواقع” منضوية تحت يافطة الواقعية التعبيرية، فأعماله الأخيرة تحت عنوان “مرافعات للضوء” هي أقرب إلى الواقعية السحرية، واقعية امتصت رحيقا ضوئيا بالغ الحسية من أزهار الفنان الداخلية التي لم تكف يوما عن النمو بصمت لا تغادره الابتسامة، ودائما على حافة ما بين الذاكرة الغارقة في الحنين والحاضر “المُتفرّج” على تحولاته بعطش لا ينضب.
صدق الفنان مع ذاته صدق صاعق يندر وجوده لدى الفنانين التشكيليين المعاصرين، ويتبدى ذلك في تأنِّيات تشكيلية شبه غازية منشورة على وسع لوحات ذات أحجام كبيرة ومشغولة بمادة الأكريليك.
عمد أسامة بعلبكي إلى توظيف مادة الأكريليك، الجديدة نسبيا، بأسلوب خاص جدا بمادة الألوان الزيتية العريقة. كذلك استقدم الواقع الصارخ إلى لوحاته في رسمه لشوارع من منطقة “الصنايع” و”الحمرا”، ولكن ليس من دون أن يدس محلولا سحريا، ركّبه في محترفه الفني، في أجوائه الليلية وما قبل مغيبية، أجواء تحولت تحت أصابعه آثرة ونابضة بالروح المُثقلة برطوبة جوّ بيروت وبتلبد ذاكرتها “بوعكاتها”، إن صح التعبير.
من يعرف أسامة بعلبكي يعرف أن هذا الفنان يعشق مدينة بيروت التي تغضبه أحيانا. أعماله الجديدة تفضح هذه الخلطة وتعيد إقامة التوازن بين ما يريد الفنان أن يراه وما يراه فعلا.
لا يخرج الزائر من معرضه إلا مبتسما وراضخا لسطوة تحويل الفنان للواقع على هوى ضوء قمر عنيد أو شمس عصر ذابت حينا وتصدّعت حينا آخر.
في نظرة بعلبكي إلى الواقع، خاصة في اللوحات التي تغلب عليها الزرقة تكاد تكون أكثر صدقا من الواقع ذاته لأنها نافذة على ما يُشاكلها من داخلها وليس من ظاهرها. يشدّنا الفنان إلى أن نحيا المدينة في ذهننا قبل أن نراها أمامنا. أما الفنان التشكيلي حسان صمد فقد تمحور معرضه “الواقعي جدا” والذي حمل عنوان “في اليوم الثامن” حول الفساد والتلوث البيئي وانهيار النظم الأخلاقية وغياب حس المسؤولية تجاه الأرض/المستضيفة لحضور الإنسان المؤقّت، وتجاه الآخرين الذين يعيش بينهم أو يشاهدهم على شاشات التلفزيون يحترقون ويتألمون.
قد يعتبر البعض أن نظرة الفنان هي نظرة سوداوية، ولكن هذه الرؤية تتطابق مع ما يحدث فعلا على الأرض، أرض لبنان أولا، وأرض العالم العالم العربي والعالم أيضا الذي لا يخلو بدوره من نشاز وأوبئة، وقد بات الأمر اعتياديا.
نظرة الفنان لا تبالغ في وصف ما رأت ولا تفترض ما لم يحدث، وكل من يعشْ في لبنان يعرفْ ذلك جيدا، أكثر اللوحات التي تتميز بواقعية فجّة هي تلك التي تحمل هذه العناوين “نصف ضوء” و”الجبل” و”الرمادي” و”كل شيء لي”، كل تلك المعاني ثقيلة الوزن وضعها الفنان في لوحته بشعرية حارقة، لا بد إلاّ أن تكون نفذت إلى عقل وقلب المشاهد على السواء بخفّة غرائبية.
الفظاعة التي ظهّرها حسان صمد بتعبيرية مؤثرة وتقنية عالية النبرة، جاءت مرصعة بدلائل وإشارات ورموز زرعها الفنان في مكامن اللوحة، لكي تأخذ المُشاهد المأخوذ بجمالية العمل إلى ما هو أبعد من المشهد الواقعي المرسوم.
النجوم التي تعجّ في سماء لوحات الفنان حسّان صمد تضاعف من سحرية اللوحات، وتضع المشاهد وجها لوجه مع التناقض السافر ما بين روعة الكون ودناءة الأفعال البشرية. وبالرغم من الفظاعات التي يصورها الفنان إلا أنها تمتلك في معظمها شراسة شعرية، إن صح التعبير تجعلك تود لو تنظر إليها دون توقف.
نجمة المعرض، المشار إليه، بلا منافس هي لوحة تحمل عنوان “يوم واحد جيد”، وهي لوحة بمقياس كبير (198 /207 سم) تشمخ وسطها شجرة زيتون عملاقة، قربها آثار دخان ناتج عن حريق افتعله “فاعل خير” ما، بالرغم من ذلك، وبالرغم من بقايا نفايات مهترئة منتشرة هنا وهناك من حولها، يشع من اللوحة سكون عجائبي يخطف الناظر إليها، فلا يريد إلاّ البقاء أمامها طويلا.. طويلا. إنها في كلمتين: واقع الواقعية.
من المعارض التي نضحت بواقعية/تعبيرية معاصرة عالية جدا نذكر معرض الفنانة غادة الزغبي، الذي ضم مؤخرا ثلاث عشرة لوحة تشكيلية بدت للوهلة الأولى وكأنها صُممت لتتولى مهمة بوح لتطهير الذات عبر رصدها وتصويرها لسلسلة من الخزائن المفتوحة على مصاريعها، والكاشفة دون أي تحفظ عن مجمل محتوياتها وأسرارها، غير أن هذا الانطباع لا يلبث أن يخفت في نفس المتجول في معرضها ليطغى عليه انطباع آخر لا يقل أهمية عن الانطباع الأول، بل هو مُكمل له. فهذا البوح الغزير لناحية موجودات الخزائن من علب وملابس وألعاب وأقلام وصناديق وصور، يوازيه من جهة ثانية كتمان كبير يتعلق بمدلولات هذه الأشياء ومعانيها وأهدافها.
جاءت خزائن غادة زغبي مُتحركة وتدب فيها الحياة، ليس فقط لأن محتوياتها مُستعملة وعليها بصمات بشرية واضحة، وقد برعت الفنانة في إيصال هذه الفكرة إلى المُشاهد بتقنيتها الفنية العالية جدا، بل أيضا لأن معظم موجودات الخزائن تظهر للمُشاهد في أطوار عدة، تتبدل تبدل أطوار الإنسان.
في المعرض خزانة، بدت تارة وكأنها تتقدم نحو المشاهد لتلفت نظره إليها، كما في اللوحة التي تحمل اسم “الكائن الوحيد”، وتارة أخرى تقترب منه لتمسك به وتأخذه بعيدا عن عالم ربما لا يزال في نفس الفنانة مُلتبسا، كما في لوحة “الذكريات المُختبئة”، حيث ظهر شكل عين ناعسة تدعو الناظر إليها، إلى ما هو خلف الملابس المُعلقة من أعلى داخل الخزانة. وفي لوحة أخرى حدثتنا خزانة عن ويلات شخصية، كما في العمل الذي حمل اسم “استعمالات متعددة للعصا وللحزام”.
تميزت كل لوحات غادة زغبي بواقعية فجة رغبت بأن تبوح بقدر رغبتها في التكتم.
السعادة البائسة
معرض آخر بدت فيه الواقعية أفضل ما يُمكن الاستعانة به لكي يفضح ليس فقط فظاعة التلوث البيئي بل نتائجه المُتشعبة على نفسية وشخصية الفرد. المعرض قدمه الفنان طارق صالحاني المولود في بيروت سنة 1987 والفنانة بولي فيبس هولاند المولودة في المملكة المتحدة سنة 1984، وحمل عنوان “نعشق ما تقدمون”.
عمم الفنانان من خلال لوحاتهما فكرة ديمقراطية الفساد والتلوث والآفات الاجتماعية تحت شعار “الحب”، الحب السقيم المبني على أصول ركيكة كالإدمان الذي بدل أن يُسعى إلى التخلص منه، بات مرغوبا فيه وتستحيل رؤية الحياة من دونه.
ويمكن وصف هذا الحب بأنه عملية ناجحة تطلي الأزمات المُترتبة على التطور البشري والتكنولوجي بسكر الحلوى المُقرمشة وطرحها في السوق للاستهلاك بوصفها سلعا شعبية، ساهم الناس في إنتاجها وترويجها حتى أدمجوها بشكل كليّ في حياتهم اليومية. الألوان المُستخدمة في جميع اللوحات لافتة لدلالاتها، فهي إما سقيمة وإما تنتمي إلى عالم اصطناعي لا يعرف عن الطبيعة والنضارة أدنى تفصيل.
والمشاهد في هذه اللوحات تتكرّر فتصوّر بضعة أشخاص، أو شخصا واحدا، يتنزّهون في حقول فضاءاتها ملوّثة بسخام دواخين المحارق، وأقدامهم تسترسل في السير بين نفايات المصانع والمخلفات الكيميائية.ويحمل العديد منهم أكياس التسوّق غير مبالين، لا بل إنهم معتادون و”مستأنسون” بكل ما يحدث من حولهم من دمار بيئي وإن كان يجلب لهم كل أنواع الأضرار الممكنة، الصحية منها والنفسية والسمعية والبصرية.
فكرة تكرار هذه المشاهد من ضمن عدة لوحات لم تبعث على الملل، إنها فكرة تؤكد على أن الإدمان على هذا الاهتراء، وعلى أن السعادة لا تكمن إلاّ في اقتناء الأشياء، حالة طبيعية يسهل التعامل معها لأن الجميع يعتقد بها، ولا تتطلب من أحد إلاّ السير دون تفكير في النظام العالمي الجديد الذي، كما أشرنا، لا يعد إلاّ بالسعادة.
وفي المعرض، من ناحية أخرى، مجموعة أعمال أرادت أن تصوّر حالات من الصحوة في تصرفات بعض الشخوص المرسومة، هؤلاء هم الذين يعون أن الأمور ليست على ما يُرام، وهم يشعرون بعدم القدرة على التغيير ولأكثر من سبب، هؤلاء فقط تظهر ملامح وجوههم بالغة الوضوح غير مكسوّة بدخان المصانع، ولكنها تحت تأثير خدر ما يتأرجح ما بين الاكتئاب والشقاء الجسدي.
النص البصري في المعرض مُباشر وواقعي جدا، وفي حال أخفق الناظر إلى اللوحات في القبض على معظم المعاني تسعفه كلمات الفنانين في تقديم المعرض على أنه فعل فني ملتزم أخذ على عاتقه فضح ملابسات هذه السعادة الزائفة والاكتفاء الوردي بنمط حياة واحدة، ظاهرها حياة اجتماعية ناشطة ومترابطة ومتلازمة المفاعيل والتوجهات التي أساسها السعي خلف الثراء، وباطنها الوحدة القاسية والإرهاق.
علامات نجاح كاذب تقنعنا بها ديمقراطية ما هي إلاّ نوع أشد خبثا وأذى من العبودية في مفهومها التقليدي، ويقدم الفنانان الأعمال الفنية بهذه الكلمات “مجتمع استهلاكي وفكر رأسمالي ينتحل المبدأ القائل بالرفاهية للجميع، وهو في حقيقته يحدّ من خيالنا ويمنعنا من أن نفكّر بصيغ مختلفة للعيش. لم يعد هناك أي فرق ما بين العمل والعيش، وفي الوقت نفسه نجد أن معظمنا عاطل عن العمل أو لا يتلقى إلاّ أجرا زهيدا لقاء عمله”.
ولعل أهم ما أشار إليه النص الذي يعرّف بالمعرض، ويختصر كل ما يحدث في العالم المعاصر اليوم، ويُترجم في العديد من الأعمال التشكيلية والمفهومية، هو “نحن الآن في زمن ما بعد الفوردية، حيث تمّ ترويض جهازنا العصبي وفق ما قاله مارك فيشر، للقبول بحالة القلق وعدم الاستقرار وضرورة زيادة الإنتاج على أنه حالة طبيعية، وليست حالة مرضية أوجدتها الرأسمالية”.
وصل مارك فيشر إلى خلاصة تراجيدية من النوع الثقيل، مفادها أن من دون القلق والهذيان المتواصلين للشعوب لا يمكن أن يستقر حال الرأسمالية على رأس الكوكب تحت شعار “الورد والسلوان للجميع”.
أعمال طارق صالحاني وبولي فيبس هولاند تنطق بكل هذا. وكما يقول الفنانان في تقديمهما للمعرض “لكثرة ما استحوذت على أدمغتنا أيقونات العصر ورموزه المنقوشة على شاشات الهواتف الذكية والشاشات الإلكترونية، بتنا لا نعي بأننا أصبحنا مجرد سلع يتم إحراقنا واستهلاكنا من دون تحفظ، ما نعيشه الآن ليس إلاّ حالة طارئة: هناك عالم آخر بانتظارنا”.
....
ينشر المقال بالاتفاق مع"الجديد" الشهرية الثقافية اللندنية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.