يقر الفنان التشكيلي محمود الخليفي أنّ تعلّقه بالفنّ ابتدأ منذ الطّفولة وتحديدا في عوالم حيّه الشّعبيّ “الكزماط” بمدينة سوسةالتونسية، وهو الحيّ نفسه الذي دارت فيه أحداث فيلم “VHS كحلوشة” لنجيب بالقاضي. في محضن الألعاب البسيطة التي تعتمد على المهارات اليدويّة، نشأ هذا الشّغفُ بتطويع المادّة وفق ما ترسمه المخيّلة حتّى تصير حكاية أو عالما مغايرا أو أفقا مّا. وهناك أيضا، تمّ استكشاف الصّورة على اختلاف أشكالها سواء تلك المرسومة بالطّبشور والفحم والألوان أم تلك المنعكسة على جدران قديمة في شكل عروض سينمائيّة “بدائيّة”. التأثر بالطفولة فيما يتعلّق بالخطّ، تأثّر محمود بمنجز والده في هذا المجال إذ كان يعمل بدوره في مجال الخطّ العربيّ. كما سحرته خيمياء الألوان في النّسيج التّقليديّ الذي تنجزه والدته. خارج البيت، كان هناك “أمّك تانغو” الدّمية التي تضرب جذورها في الخرافة القديمة، دمية تصنع من موادّ بسيطة وأقمشة من كتّان. توضع على عصا، ويجوب بها الأطفال أزقّة الحيّ طلبا للماء من الجارات حتى يسكبنه عليها في طقس استسقاء مخصوص. هتافٌ يرتدّ في ذاكرة كلّ طفل تونسيّ عاش في تلك الأحياء: “أمّك تانغو شهلولة/ إن شاء الله تروّح مبلولة”. يقول محمود الخليفي إنّه انطلاقا من تلك الدّمية الصّغيرة سيسكنه لاحقا هوس إنجاز دمى عملاقة ذات ملامح جديدة يرسمها هو ويشكّلها كيفما شاءت مخيّلته. ولكن قبل ذلك مرّت تجربته بمراحل عديدة، فمن خطّاط عربيّ إلى مصمّم للمعلّقات الفنّيّة في زمن لم يكن فيه الكمبيوتر شريكا في هذه العمليّة الفنّيّة. شيئا فشيئا تطوّرت تجربته باتّجاه الرّسم والتّشكيل. وقد كان له أكثر من معرض داخل تونس وخارجها، إذ قدّم معرضين في مدينة نيس بفرنسا سنتي 2001 و2007. ومن تجاربه المميّزة مؤخّرا إشرافه على ورشة تكوينيّة في فنّ الرّسم داخل سجن مدنيّ وتقديمه لعرض قياسيّ في الرّسم التّشكيليّ وسط ساحة الفنون بمحافظة المنستير؛ إذ قام صحبة مجموعة من الشّباب بتقديم عرض يمزج بين المسرح والرّسم على لوح ضخم في خلفيّة الرّكح. وينتهي العرض الحيّ بلوحة كبرى تعبّر عن موقفه إزاء ما يحدث في وطنه على الصعيدين السّياسيّ والاجتماعيّ. وعن هذا التعدّد في اهتماماته، يقول إنّ انهمامه بالفنّ والإنسان جعله يلقي بنفسه في مغامرات كثيرة تطوّرت على التّدريج لتشكّل تجارب محترمة. فقد ساهم أيضا في إعداد ديكورات مسرحيّة عديدة مع مسرحيّين تونسيّين بارزين مثل كمال العلاوي ورؤوف بن عمر وسليم الصنهاجي ومنير العرقي والبشير الإدريسيّ. وعمل في دورات عديدة من كرنفال أوسّو وكرنفال نيس بفرنسا. وهناك مزج حسّه التّشكيليّ بفنّ الاستعراض. وتطوّرت طموحاته ليعمل بمفرده في ورشة صغيرة ببيته على صنع دمى عملاقة هي شخصيّات جديدة يبدعها ويحلم بأن تحيا في استعراض شعبيّ كبير يطلق عليه منذ الآن اسم “كرنفال حومتنا” أي كرنفال حارتنا. كرنفال في الحي عن مشروع “كرنفال حومتنا” الذي ينوي تأسيسه، يشرح محمود الخليفي تصوّره قائلا: يبدو لي أنّه من المميّز أن يستطيع الأطفال في أحيائهم الشّعبيّة البسيطة خلق دمى وشخصيّات وأشكال مختلفة انطلاقا من أبسط الموادّ وأرخصها بل من الفضلات نفسها، لتتحوّل تلك الموادّ من المهمل الرّخيص إلى حيوات نابضة. ثمّ نستطيع في خضمّ ذلك أن نشكّل حبكة لحكاية كبرى ينتظم وفقها كرنفال كبير يجوب شوارع المدن وأحياءها. هذا هو كرنفال حومتنا الذي أحلم بتأسيسه. عمل فنّيّ ضخم ينطلق من الأطفال والنّاشئة البسطاء ويصل إليهم. استعراض يمكن لهم أن يروا فيه حياتهم بتفاصيلها الصّغيرة والمهملة. ويمكن لهم أيضا أن يشعروا بالانتماء إليه. إنّه نوع من مصالحة التّونسيّ أيضا مع الفنّ ومع ثقافته الخاصّة. ففي هذه النّقطة تحديدا تقع بحسب رأي الفنّان أزمة كبرى. هناك مشاريع كثيرة في تصوّره تطلقها وزارة الثّقافة. لكنّها تظلّ أحيانا داخل الإطار الضّيّق للمناسبات وغياب الفعاليّة والتّأثير في الجمهور العريض. إنّ الرّهان لديه يظلّ موصولا بتجارب فنّيّة أصيلة وحقيقيّة قادرة على الامتداد داخل الجمهور العريض وتغيير نظرته إلى ذاته ووطنه وثقافته. وبالعودة إلى ذاكرته الطّفوليّة، يقول الخليفي “حين كنت طفلا صغيرا، كان مشهد الدّمى العملاقة يخيفني ويبكيني. ربّما لأنّ شيئا مّا فيها حيّ على نحو قويّ جدّا وغامض. المهمّ أنّ ذلك الخوف الذي تلبّس بي في الطّفولة وجعلني أنسلّ من بين يدي والديّ وأضيع في زحام المدينة هو نفسه ما جعلني أعود إليها لأتساءل عن سحر هذه الدّمى ورهبتها العجيبة. وفي النّهاية، انتهى بي الأمر مصمّما وصانعا لها لا لأخيف طفلا آخر بل لأستدرجه إلى متاهة الفنّ العجيبة.