“بن”، واسمُه الحقيقي بنجامان فوتييه فنان غريب النشأة والتكوين، فقد ولد، من أب سويسري وأم إيرلندية، في نابولي بإيطاليا عام 1935، ونشأ في إزمير بتركيا، ثم في الإسكندرية بمصر، ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، استقر مع والديه في مدينة نيس ولم يبلغ عامه الرابع عشر. وبن فنان عصاميّ التكوين، لم يعرف الفن إلا من خلال كتب الفنون الجميلة المعروضة في المكتبات، حتى اكتشف في أواسط الخمسينات مشهدا فنيا حيّا في مدينة نيس أثار اهتمامه، ورغّبه في خوض غمار التجربة. وكان له في تلك الفترة متجرٌ يبيع فيه الأسطوانات لكسب قوته، خطّ عل واجهته خطوطه الأولى، ثم حوله تدريجيا إلى مقرّ لقاءات ومعارض فنية، كان يلتقي فيه أهم أعضاء ما صار يعرف لاحقا ب”مدرسة نيس” أي سيزار بلداتشيني، وأرمان فرنانديز، ومارسيال رايس وخاصة إيف كلاين الذي فتح عينيه على “الواقعية الجديدة”، تلك المدرسة لم يكن يوحدها غير الفضاء الجغرافي، أما أساليب منخرطيها فكانت متنوعة. كان بن يعتقد أن الفن ينبغي أن يكون جديدا وصادما، لذلك، بدأ منذ أواسط الخمسينات يرسم تشكيلات تحوم حول الموزة، وهي عبارة عن رسوم قضيبية الشكل، بسيطة اللون والأبعاد، لم يستسغها صديقه إيف كلاين، فنصحه بالتخلي عنها والتركيز على الكتابة، أي الرسم الخطوطي. وما هي إلا بضعة أعوام حتى استهل “منحوتاته الحية”، وكانت عبارة عن كلمات يخطها على أجساد الناس في الشارع، وعلى أجساد أصدقائه وحتى أفراد عائلته، وكان يصرّح “أوقّع على كل شيء”، معلّقا عمّا يجري في العالم عن طريق الصور، وكذلك عن طريق الأفعال، فقد اعتاد مثلا في مرحلة ما من مسيرته أن يصرخ في متجره لمدة دقيقتين كل يوم على الساعة السادسة وثلاثة وثلاثين دقيقة، لأن الأداء كان يكتسي لديه ما للرسوم والتوقيعات من أهمية، فكان بذلك من أوائل الفنانين الذين نقلوا الفن إلى الشارع في أوروبا. والفن في تصور بن ليس رسوما وألوانا ومنحوتات فحسب، بل هو كل شيء في الوجود، ساكنا كان أم متحركا، ولذلك كانت “أعماله في الشارع” لا تختلف عن الحركات اليومية التي يأتيها كل فرد، كالوقوف في المحطة لانتظار الباص، أو تأمل السماء وسحُبها، وحتى عبور ميناء نيس سباحة بثيابه، بل إنه كان يقول إن شخصه عمل فني في حدّ ذاته. ومع ذلك فسمعة بن متأتية أيضا من أعمال غريبة كسائر أعمال حركة فلوكسوس، مثل “تملكاته” للمفاهيم أو الأشياء، كالضوء في شكل تجميع لمبات، والمياه العكرة في بوقال، والأكداس في شكل كوم من الأحجار الملساء، أو أعماله عن الرب والشيطان وخاصة عن الموت، حيث صرّح مرة: إني الموقّع أدناه بن فوتييه أعتبر موتي عملا فنيا، أو دعوته الجمهور إلى الجلوس على أريكة شاغرة ليتحول كل جالس عليها في نظره إلى منحوتة حيّة. أي أنه كان ينأى بنفسه عن التجربة الشكلية الصرف ليهتم بالمحتوى والدلالة، في عملية بحث مفهومي خالص. كل جملة، أيا ما يكن طولها، تحتوي على مخزون هام من الأسئلة الأساسية حول حقيقة الفن في تصوره، ودور الفنان في المجتمع، والعلاقة بين الفن والحياة. وقد رأى بعض النقاد أن كتاباته التي يخطها على شتى المحامل تعكس تساؤلاته الذاتية، وتشهد على فكر نقدي لا يتردد في اتهام كل شيء، وكل الناس، بدءا بنفسه. وأيا ما تكن منطلقاته الفكرية وتصوراته الفنية، فهو أيضا ممن ساروا على خطى مارسيل دوشامب، وتأثروا ب”الريدي ميد”، إذ كان يكرس بكيفية دائمة فكرة مفادها أن العمل الفني لا يعرف بمحتواه المادي، بل بالتوقيع الذي يحمله. رغم أن أعماله الخطوطية الأولى كانت تعكس بحثا من جهة الشكل، ومن جهة اللون أيضا، مع التركيز على الأبيض، ثم الأحمر والأسود معا، ثم الأسود والأبيض. ويظهر ذلك جليا حينما كان يرسم رسائل ثم صار يسطرها مباشرة بالأكريليك الأبيض، ضمن الرسم الذي صار توقيعه، وكان يحوّل كل ما تقع عليه يداه في ورشته إلى “أعمال فنية”. الجديد هو أهم شيء لديه، فهو دائم البحث عن الصيغة المثلى للفن، أو ما يتصوره كذلك، ولكنه أيضا دائم السخرية والاستفزاز، فهو من ناحية يصادف أن يقول “الفن لا يفيد في شيء، عودوا إلى بيوتكم”، ثم يعود في اليوم التالي ليقول “أنا أهم شيء.. حسبكم أن تروني” بوصفه عملا فنيا في حدّ ذاته، كما أسلفنا، أو يعرض لوحة كتب عليها “أنا كذّاب”، وأخرى كتب عليها “يخجلني أن أكون بينكم” إلى جانب أخرى كتب عليها “أنا الأهم”.