لم يحظ هوبير روبير (1733-1808) بمثل هذا المعرض الذي أقامه متحف اللوفر له في الفترة الممتدة من مارس الماضي إلى نهاية مايو القادم، وذلك منذ الاحتفال بمئويته الأولى عام 1933، رغم أن مسيرته اقترنت بمتحف اللوفر أصلا، فقد عرفه منذ 1778 أي في عهد لويس السادس عشر، واستشير في كيفية جعل القصر الذي تحفظ فيه لوحات الملك مفتوحا أمام عامة الناس، وأقام فيه ما يزيد عن ربع قرن، بوصفه أكاديميا، ثم حارسا للوحات الملك، ثم محافظا لما كان يسمّى “المتحف المركزي للفنون”، أي بعد 1795. ولم يكن روبير يتولى إدارة وتسيير اللوفر، فحسب، بل كان يصون مقتنياته، ويحفظ الذاكرة الفنية من التلف لا سيما إبان الثورة الفرنسية وتقلباتها، مثلما كان مهندسا يخطط لمستقبل هذا المعلم الحضاري لكي يكون أكبر متحف في العالم، وإن تناسته المتاحف على مرّ الأجيال، فلأنه ظل في نظر المؤرخين شاهدا على العصر، وأكاديميا لم يُحدث ثورة تخلّد ذكره. من خلال أعماله المعروضة، التي تَعدّ مئة وأربعين أثرا فنّيا، يبدو روبير لأول وهلة تجسيدا حيّا للفنون التشكيلية في نهاية القرن الثامن عشر، من جهة تكثيف أوراق الشجر، والإفراط في تنميق الآثار وملامح الشخوص، ولكن الناظر المتأني يكتشف أن تلك المآخذ، في الظاهر، هي سرّ قوته، تتبدى أولا في السيطرة التقنية لا سيما على مستوى الأفق المنظوري. وتتبدى ثانيا في سعة النظر، إذ أن روبير يعانق المشاهد بكيفية لا يأتيها إلاّ القليل، فيتوصل إلى الإمساك بما هو عظيم وفاتن، في نوع من الرومانسية الخلابة، حتى أن بعض النقاد يرون أن عوالمه يمكن أن تحتضن رونيه بطل شاتوبريان وفورتر بطل غوته. ورغم ذلك بقيت صفة الأكاديمية عالقة به منذ قرنين. ولا جدال في أنه أكاديمي، فمن جهة مسيرته، اعتُرف به رسميا منذ بداياته وفتحت أمامه القصور، ومن جهة تكوينه، قضى نحو عشر سنوات في روما، من 1754 إلى 1765، وتعرف على جان هونوري فراغونار، وإذا كان صديقه هذا قد وجد ضالته في رسم الرغبة ومشاهد اللقاءات الحميمة، فإن روبير بقي وفيا لذائقة عصره، حيث تتلمذ في روما على جوفاني باتيستا بيرانيزي (1720-1778)، الذي كرّس حياته لإحياء جماليات العصور القديمة، واستفاد منه في الإلمام بمعنى المعمار الهندسي، خصوصا في ما يتعلق بالمعالم الداثرة، وهو ما عرف في منتصف القرن بموضة الأنتيكة. عكف روبير على رسم المعالم الأثرية، الحقيقية أو المتخيّلة، باقتدار كبير حتى نعت ب”روبير الأنقاض”. وقد عُدّ ذلك نقطة بارزة في مسيرته، تتجاوز نجاحه الذاتي لتلتحم بتاريخ الحضارة الأوروبية. فهو لم يكتف بمجاراة موضة فحسب، بل صوّر عصره ونبّه إلى المستقبل. وهذا ما عبّر عنه ديدرو منبهرا بلوحات روبير عند عرضها في الصالون الباريسي عام 1767 “الأفكار التي تُحْييها الآثار في نفسي عظيمة. يا للآثار الرائعة.. كل شيء يزول، كل شيء يهلك، كل شيء يفنى.. ونعود إلى أنفسنا، ونستبق دمار الزمن.. وها هو السطر الأول من شعرية الأنقاض”. ومع كل ذلك، شاء الحظ أن توجد “سياسة الأنقاض” أيضا، فالنصف الثاني من القرن الثامن عشر كان عبارة عن سير باتجاه الهاوية، والنظام القديم سيتهاوى إلى خانة الآثار القديمة، ليليه سقوط تيجان أوروبية أخرى، كما أن الآثار سوف تشهد بريقها عبر التغني بالأمجاد القديمة، لا سيما الرومانية التي سعت إمبراطورية نابليون إلى تقمّصها، مثلما غذّت بها قومياتُ القرن التاسع عشر خطابها. لم يكن هوبير روبير يقنع باللوحة، فهو يحس أن بُعديها يضيّقان عليه الخناق، فكان ينجز حدائق خاصة وعامة يكسر خلالها التناظر الفرنسي المعهود، ويزين مختلف الأواني، ويقبل على زخرفة القصور، مستفيدا ممّا تعلمه في إيطاليا، خصوصا على يدي جوفانّي باولو بانيني (1691-1765). لما عُيّن روبير مهندسا لحدائق الملك، كان قد بلغ قمة مجده، ووجد في الحديقة لوحة شاسعة يمكن أن يتجول فيها، بعيدا عن رتابة المهنة وسجون سنوات الرعب التي عقبت الثورة الفرنسية ومخاوف المقصلة، باعتباره واحدا من المنظومة القديمة، يتردد على قصر الملك بفرساي ويرسم له ما يريد. عندما بدأ هوبير روبير ما بين 1796 و1805 يرسم سلسلة “مشاهد متخيلة لقاعة اللوفر الكبرى”، هل كان ذلك ناجما عن حب لا يفنى للآثار، أم عن إحساسه بأن كل شيء هشّ لا يثبت على حال؟ فقد مات خلال الثورة أولاده الأربعة ولقي عدد من حُماته الإعدام أو النفي وتغيّرت الأذواق. عشية موته في 14 أبريل 1808، كان أنطوان جان غروس (1771-1835) قد أتمّ بورتريه جيروم بونابرت، أخي نابليون، الذي عُيّن ملكا على وستفاليا، معلنا عن زوال الأنقاض وحلول عهد الغزاة.