حاولت أن أستعمل تعبيرا مُلطفا ومُخففا لحقيقة مؤلمة وهي خيانة المثقفين لبعضهم البعض، والعداوات العلنية وتبادل التهم عبر المقالات وصفحات الفيسبوك والتواصل الاجتماعي، وبلغة تقترب كثيرا من اللغة السوقية، ولا أستثني العديد من البرامج الحوارية على الفضائيات التي كانت تنتهي بأقذع الشتائم وبالضرب أحيانا، إلى درجة تجعلني أتساءل: هل نحن نتقبل الرأي الآخر فعلاً، أم أن الآخر يصبح عدوي لمجرد طرحه فكراً مُخالفا لفكري فيحقّ لي تسفيهه وشتمه وإيذاؤه. ما كنت أتمنى أن أخوض في هذا الأمر، لولا أنني لاحظت في الفترة الأخيرة تبادل اتهامات وشتائم فاحشة بين قامتين أدبيتين مهمتين، ومعركة كلامية على صفحات الفيسبوك يقرأها كل الناس، ويتساءلون: أيّ مستوى هبط إليه هؤلاء المثقفون الذين من المُفترض أن يكونوا قدوة للآخرين بكلامهم المهذب وسلوكهم الراقي. أيّ عار أن تخاطب مثقفة زميلة لها بعبارة ” الكلاب تعوي والقافلة تسير!”، وأن ترد الأخرى ساخرة “لأنها مثقفة تشتمني باللغة الفصحى”. للأسف الوسط الثقافي يعاني فسادا كبيرا ربما أكثر من فساد الأوساط الأخرى ، وتكفي نظرة بانورامية على المشهد العربي كي نرى كم من العدوات وتبادل التهم بما يفيد بأن الكاتب الفلاني سرق نص كاتب آخر، ويبدأ كل منهم بشتم الآخر واتهامه بالسرقة. وغالبا ما يجد البعض من المثقفين متعة وشماتة في هذه العداوات، فيصبون الزيت على النار بدل أن يخففوا من التوتر ويلعبوا دور الوسيط في إزالة العداوات واحتقان النفوس بالكره والغضب. وفي ذاكرتي الآن أمثلة عديدة على السلوك الفاسد عدا عن اتهام الكاتب أو الكاتبه كاتبا آخر بسرقة بعض من إنتاجه. فعلى مستوى المجلات الثقافية كم من رؤساء تحرير فضلوا كاتباً على آخر بسبب العلاقات الشخصية والمصالح المشتركة فقط ، وكم من مجلات ثقافية أصدرت الكتاب الشهري الثقافي المُلحق بالمجلة مرات عدة للكاتب المدلّل نفسه، بحكم صداقته ومصالحه مع رئيس تحرير المجلة. وربما يكون الكتاب دون المستوى الإبداعي المطلوب، ولكن المهم أن يعثر هذا الكاتب على الباب حتى يدخل محفل المرضيّ عنهم ويُفرض على الناس وكذلك يقبض المكافأة المجزية وبهذا الفساد الثقافي يُمنع أصحاب المواهب الحقيقية من فرص نشر إبداعهم. ولكم من كاتب مغمور هزيل الموهبة فُرض فرضاً ليحتل صفحة في أشهر المجلات الثقافية بفعل صداقته النفعية مع رئيس التحرير، ولا ضرورة لأن أذكر الأسماء، فأنا أجزم أن كل من يتابع الإصدارات الأدبية في عالمنا العربي تلفته ظاهرة صنع نجوم أدبية زائفة. بل وأجزم بأن أسماء تخطر لنا معا الآن. في هذا السياق من الفساد المحموم تتأثر الكاتبات أكثر من الكتاب بمظاهر الفساد الثقافي، فكم من كاتبة اتهمت بأن الكاتب الفلاني كتب لها روايتها، وكم من منتشين بهذا المنطق يدافعون ويتحمّسون ويؤكدون ذلك الاتهام من دون أن يملكوا دليلاً، كما لو أن اللذة والمتعة كامنتان في النميمة وفي تشويه صورة الكاتبة المُبدعة. وغالبا ما تتعرض الكاتبة، خصوصا لو كانت شابة وجميلة، إلى سيل من التهم تتركز حول دور جمالها وصباها في قيام شهرتها، وليس مستوى نصها الأدبي. الفساد الثقافي الأكبر والأكثر خزيا هو قبول العديد من القامات الإبداعية في أن يكونوا مثقفين مُقاولين، بمعنى أن يبيعوا أفكارهم لرجال السلطة السياسية، فالثقافة للأسف في عالمنا العربي كثيرا ما تلعب دور الخادمة للسياسة، وكم من كاتب مهم ثمّن أفكاره وباعها لزعيم سياسي أو رئيس دولة وكتب له كتابا يحمل اسم السياسي وقبض مبالغ سخية مقابل ذلك. ولا أنسى عدداً من الشعراء والشاعرات الذين كانوا يسافرون من بلد إلى بلد للاحتفال بعيد ميلاد حاكمه المُستبد، وإحدى الشاعرات كانت تتباهى بأنها في كل عيد ميلاد حاكم كان قويا في المشرق كانت تقف في قصره وتقرأ قصيدة تؤلهه فيها وتقبض الثمن. هذا النوع من المثقفين أسمّيه بالمقاول لأن الثقافة الحقيقية لا تعني له شيئاً بل ترى واحدهم مستعداً لأن يثمّن أفكاره ويضعها في خدمة الأقوى وهو السياسي. لا أنسى تعريف ألبير كامو للكتابة بأنها شرف. شرف الكلمة وتقديسها واحترامها هو ما يجعل الكاتب محترما وذا مصداقية. الكاتب الحقيقي لا يكون ولاءه إلا للحقيقة. لا يستغل ضعف ثقافة القارئ ويسرق من هنا وهناك أفكارا وكتابات. من حسن الحظ أننا نعيش في زمن ثورة الاتصالات حيث لم يعد بمقدور أحد أن يستغل الآخر ويستغفله ويسرق ما طاب له من كتب منشورة في غوغل دون أن يُكتشف. صار بإمكان طالب على مقاعد الدراسة أن يكشف تلك السرقات. أخيراً كم هو محزن أثر الفساد الثقافي على تيار الأخلاق في عالمنا العربي. إن مظاهر الفساد وظواهره الكثيرة تتطلب مواقف جادة من الكتاب الشرفاء والمثقفين الكبار من ذوي الأخلاق الرفيعة ولكن هل يمكن إلغاء المحسوبيات ومحاربة المثقفين المقاولين وفضحهم بل ومحاكمتهم، وتسليط الضوء على من تسوّل له نفسه السرقة والإفساد في الحياة الثقافية؟ في نظري إن على المثقفين والمبدعين أن يفضحوا بطرائق شتى كل كاتب يخون شرف الكلمة. لأن الكتابة، أولا وأخيراً -كما عرفها العظيم ألبير كامو- هي شرف. .... كاتبة من سوريا