بين الخيال والواقع هناك الكثير من التفاصيل التي تحمل قصصاً وحكايات عدة، تعتبر "آكلو لحوم البشر" واحدة من أبرزها التي تحتوي على الكثير من الألغاز والأساطير، تجعلها جزءاً من الخيال، على الرغم من اقترابها من الواقع مع تنوّع أشكالها، فلا تكاد تخلو حضارة من الحضارات البشرية من "آكلي لحوم البشر" بما في ذلك عصرنا الحديث. صوّرت السينما والكتابات "آكلي لحوم البشر" في هيئة أسطورية، غالباً ما تنتفي عنها أية صفة مرتبطة بالواقع والحقيقة، إلا أن تلك الأسطورة لها أصولها الضاربة في تاريخ البشرية، فعلى الرغم من غرابة ووحشية الأمر، فلا تكاد تخلو حضارة من الحضارات البشرية من وجود لآكلي لحوم البشر، فعلى مرّ العصور هناك حكايات ومرويات عن أكل لحوم البشر بذرائع مختلفة للظروف الخارجة عن الإنسان دور فيها، كما للمعتقد أيضاً دور في بعضها. يشير إلى أكل لحوم البشر بكلمة “Cannibalism”، والتي تشتق من كلمة “كاريب” التي استخدمها كريستوفر كولومبس للإشارة إلى قبائل سكنت الجزر الأميركية، والتي تعني بالإسبانية "الوحشية"، وقد أطلقها كولومبس على تلك القبائل لأنها كانت تأكل لحم البشر. إلا أن ظهور آكلي لحوم البشر لم يبدأ عند ذلك بل يرجع إلى ما هو قبل إلى المجاعات قديماً والتي شهدت أموراً تفوق التصوّر البشري في الظروف الطبيعية، وهو ما يؤكده العهد القديم لهذه الحقيقة بالحكاية المشهورة، والتي جاء ذكرها في الإصحاح السادس من سفر الملوك الثاني: "وكان جوع شديد في السامرة (…) فقالت: إن هذه المرأة قد قالت لي: هاتي ابنك فنأكله اليوم، ثم نأكل ابني غدًا، فسلقنا ابني وأكلناه، ثم قلت لها في اليوم الآخر: هاتي ابنك فنأكله فخبأت ابنها"، وروي في القرون الوسطى وتحديداً أثناء الحروب الصليبية، أن الجنود الصليبيين أكلوا لحوم البشر في المدن التي حاصروها. ومثله مثل باقي الحضارات، لم يخلُ المجتمع العربي من "آكلي لحوم البشر"، فقد أشار الجاحظ في كتابه "البخلاء" إلى وجود أناس يأكلون لحوم البشر في المجتمع العربي، وكيف أن شعراء عربا هجوا هؤلاء، وقد أفرد الجاحظ لهذه الحوادث باباً أسماه: "باب الطعام المذموم عند العرب"، أورد فيه شعراً هجاء لأكلة لحوم البشر بين القبائل، والذين كانوا بسبب فعلتهم يوصمون قبائلهم كلها بذلك. وذكرت المرويات والكتب التاريخية التي تناولت مجاعة الشدة المستنصرية التي أصابت مصر لسنوات، ما يُحكى عن أكل الناس بعضهم بعضاً أحياء وأمواتاً، حيث روى ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" مظاهر المجاعة، وكيف كان الناس يأكلون بعضهم، قائلاً: "الناس أخذوا في أكل الأحياء، وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح"، وهو ما ذكره أيضاً المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" الذي أرّخ للمجاعة. وكان بداية ظهور آكلي لحوم البشر في العصر الحديث في أوائل القرن التاسع عشر، على يد مصاص الدماء الألماني فريتز هارمان، والذي كان يقتل ضحاياه الأطفال، ثم يمص دماءهم ويأكل لحومهم، كما مارس الإتجار في لحوم البشر، حيث كان يصنع شرائح اللحمة والسجق من لحوم ضحاياه ويبيعها للجزارات. وفي عام 1932 ظهر آكل لحوم البشر الأمريكي ألبرت فيش، الذي اغتصب أكثر من 400 طفل وطفلة وقتلهم وأكل لحومهم، ووفقاً للرسائل التي كان يُرسلها فيش إلى الصحف وأهالي ضحاياه، فقد كان يتلذذ بأكل لحوم ضحاياه وهم أحياء قبل قتلهم تماماً. ولعل الأغرب كان في عام 2001 عندما أعلن الإنجليزي أرمين مايفيس، عبر شبكة الإنترنت عن حاجته لشاب قوي البنية ما بين 18 و30 عاماً للذبح، وبالفعل أجابه المهندس أرماندو برانديس، ليلتقي كلاهما في منزل مايفيس الذي يتفق مع الضحية على البدء بقطع عضوه الذكري وطهيه ليأكلاه سوياً، وبعد الانتهاء من هذه الوجبة قتل مايفيس ضحيته برانديس كما يقتضي الاتفاق بينهما. ومن أبشع وأشهر ما ارتكب في العصر الحديث لأكل لحوم البشر، ما نشرته قناة بي بي سي البريطانية، عن رجل مسيحي في أفريقيا الوسطى، اشتبه في رجل يركب حافلة كونه مسلماً، فقام وعدد من المسيحيين بتتبعه، واعتدوا عليه بالضرب والطعن وتحطيم صخرة على رأسه، ثم قاموا بإضرام النار فيه، وقطعوا جسده وقاموا بأكله نيئاً، لترتبط تلك الحقيقة بالعصر الحديث كما ارتبطت بباقي الحضارات والعصور البشرية. د. أحمد الشلق، أستاذ التاريخ الإنساني بجامعة عين شمس، يؤكد أن التاريخ الإنساني احتوى على الكثير من الروايات والحكايات عن "أكل لحوم البشر"، ما يجعله جزءاً من واقع البشرية ولكنه ليس بنفس الصورة الأسطورية التي تظهر في السينما والكتابات والقصص، لافتاً إلى أنه وفقاً لما ذكره التاريخ هناك نوعان من أكل لحوم البشر، الأول يرتبط بالمجاعات واضطرار الإنسان تحت ضغط الظروف والحاجة لفعل ذلك رغماً عنه حتى يبقى على قيد الحياة، وهو النوع الغالب في الروايات والحكايات التاريخية، والنوع الثاني هو الغريب والوحشي، والذي يحب تناول لحوم البشر وخاصة قتل الأطفال وأكل لحومهم، وفي الغالب يُعاني هذا النوع من الاضطرابات النفسية والعقلية وربما الجينية. وتشير د. إيمان البسطويسي، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة القاهرة، إلى أن العديد من شعوب العالم القديم قد مارسوا أكل لحوم البشر من منطلق مرتبط بالمعتقدات الدينية أو الثقافية، مثل شعب "الأزتيك"، السكان الأصليون للمكسيك الذين اعتقدوا أن أكل لحوم أسرى الأعداء نوع من القرابين المقدّمة للآلهة، كذلك مارس سكان أستراليا ونيوزيلندا الأصليين نفس الشيء لكن مع الموتى من أبناء القبيلة، لاعتقادهم أن هذا الطقس سيساعد في بقاء روح المتوفى دون أن تهلك مع الجسد، موضحة أن هناك بعض القبائل في الهند وأفريقيا لا تزال تمارس أكل لحوم البشر، مثل قبيلة "آجوري" الهندية والتي تُمارس طقسها المفضّل في أكل لحوم الموتى، اعتقاداً أنها تمدّهم بالطاقة الروحية والجسدية، وقبائل "الفور" الأفريقية التي استمرت على طقوسها في أكل لحوم البشر حتى خمسينيات القرن العشرين. وتقول البسطويسي: إن أكل لحوم البشر يُمارس في الغالب كموروث ثقافي أو معتقدات خاطئة، على أن يتم التفرقه بين ذلك، وما يقوم به من جرائم من قتل الأطفال ومص دمائهم وأكل لحومهم، وهو ما قد يعود إلى خلل نفسي واضطراب سلوكي إجرامي. ومما يُذكر عن أكل لحوم البشر في سياق ديني ما جاء في الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا: "فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم، إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية". (خدمة وكالة الصحافة العربية)