يلحظ المتتبع لتطور الشخصية المصرية أن ثمة تغيرات سلبية عديدة قد اعترتها خلال الآونة الأخيرة تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وبفعل الاحتقان السياسي الذي يخيم علي البلاد . فقد بدا المصريون مؤخرا وكأنهم بسبيلهم الي أن نزعوا عن أنفسهم رداء الطيبة والهدوء وتخلو عن روح التسامح والمصالحة مع الذات والآخر ،فأضحوا بدورهم أكثر ميلا واستعدادا للعنف وأقل قدرة علي كظم الغيظ و احتمال أخطاء الآخرين أوحتي تقبل زلات بعضهم البعض .ورويدا رويدا ،غدا من غير المستغرب اقتتال الاخوة وبات من المألوف ازهاق الابن لروح والده أو والدته لأسباب مخجلة ،كما هانت أرواح ذوي الدم الواحد علي بعضهم وكأننا صرنا نعيش في غابة أو نركض ركض الوحوش الضارية في البرية. والمثير للتدبر في هذا الخصوص هو أن حالة الصراع الاجتماعي الشرس لم تقتصر فقط علي فئات بعينها أو شرائح اجتماعية دون سواها،وان بدت ملامح هذا الصراع بشكل فج بين أبناء الطبقة الفقيرة،بل انها طالت كل شرائح وفئات المجتمع المصري ،وان اختلفت في الوتيرة من شريحة أو فئة الي أخري،حتي أصبح كل فرد في مؤسسة أو حتي صاحب عمل يشكو طبائع الناس وغدر البشر وتكالبهم واقتتالهم علي أسباب الرزق ،حتي الأطفال لم يسلموا من ذلك الوباء اللعين الذي ألقي بظلاله علي شعب الكنانة ،فلم يتورع الصبية والأطفال عن الارتكان الي أشد الألعاب ووسائل الترفيه والتسلية عنفا ودموية وازعاجا،فتجد الشوارع والميادين والأندية والمدارس والجامعات تعج بالألعاب النارية ووسائل الترفيه الخطرة ،التي يتأذي منها الكبار ولا يسلم من شرورها الأبرياء أو حتي من يمارسونها.وعلي غير المعهود ،دلفت الي المجتمع المصري جرائم وتجاوزات وأعمال عنف يرتكبها شباب في عمر الزهور ،ان من خلال القيادة المتهورة للسيارات والدراجات النارية وسط الزحام أو من خلال استخدام الأسلحة البيضاء والنارية دونما مبرر حقيقي،لكيلا تخلو صفحات الحوادث من الجرائم والأحداث الدامية والمؤسفة التي غالبا ما يكون أبطالها من الشباب. حتي الرياضة،التي كانت متنفس المصريين وملاذ بسطائهم للفرار مؤقتا من سطوة الحياة الصعبة وأبلغ دليل علي وطنيتهم وانتمائهم وتآخيهم ، لم تسلم هي الأخري من التعصب والتوتر والصراع ،اذ تسللت الي ملاعب كرة القدم المصرية نبرة تعصب وعنصرية لا قبل للمصريين بها،حيث خيمت علي مشجعي الكرة مسحة من التعصب والعنف تمثلت في كراهية شديدة للأندية والفرق المصرية المنافسة الي حد مناصرة خصومها غير المصريين ضدها، كما شهد مؤخرا ملعب القاهرة الدولي ابان مباراة القمة الأخيرة بين الأهلي والزمالك هتافات عنصرية من جانب بعض جماهير الأهلي ضد نجم فريق الزمالك محمود عبد الرازق ، الذي اشتهر باسم "شيكابالا" نظرا لالتقائه مع النجم الزامبي شيكابالا في امتلاك مهارة المراوغة فضلا عن سمرة البشرة،وذلك علي غرار ما فعلته جماهير الزمالك تجاه نجم الأهلي وهدافه محمد أبو تريكة.لكن الجديد والمثير كان في نوعية الهتافات التي أمطرت بها جماهير الأهلي شيكابالا الزمالك خلال لقاء القمة ،والتي تحولت من سباب عام وجد طريقه للانتشار في الملاعب المصرية في السنوات الأخيرة دون رادع حقيقي، الي هتافات عنصرية ضد لون بشرته السمراء ،التي طالما تغني بها المصريون في تراثهم الشعبي باعتبارها أحد علامات الحسن والجمال. ومما يبعث علي القلق أن القائمين علي الرياضة في مصر،وتحديدا كرة القدم ، لا يضعون تلك الظاهرة في موضعها الصحيح ولا يزالون يقللون من شأنها متجاهلين أن الأمر قد يتطور للأسوأ بحيث تمتد الهتافات العنصرية لتشمل الدين بعد اللون،وهم يبررون تقاعسهم عن اتخاذ اجراءات صارمة من أجل التصدي لتلك الظاهرة الممقوتة بأنها ظاهرة عالمية تجتاح معظم ملاعب العالم ،خصوصا الأوربية منها والتي تموج بهتافات عنصرية تستهدف النجوم أصحاب البشرة السمراء وذوي الأصول العربية والاسلامية. غير أن هؤلاء تناسوا أن هناك صرامة أوربية في التعاطي مع تلك الظاهرة البغيضة ،حيث أعلن الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عن اتخاذ اجراءات رادعة لمواجهتها، أعلن مؤخراعن قواعد جديدة تعاقب اللاعب الذي يدلي بتصريحات عنصرية بالايقاف خمس مباريات،كما رفع مدة العقوبة الموقعة علي أي لاعب يهين شخصا آخر أو مجموعة من الأشخاص بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو العرق من ايقاف ثلاث مباريات الي خمس، وستعاقب الأندية، التي سيتورط مشجعوها في تصرفات عنصرية ،بغرامة تبلغ 19 ألف يورو (24230 دولارا) بحد أدني, وحذر الاتحاد الأوربي من أنه بصدد تقنين اصدار عقوبات أخري أغلظ بالنسبة للانتهاكات الأكبر مثل اللعب دون جمهور. وبدوره ، حذر الاتحاد الدولي لكرة القدم الاتحادات الوطنية التي تفشل في تنفيذ القواعد الجديدة المتعلقة بمكافحة العنصرية، من امكانية تعرضها لعقوبة الاسيقاف. وحسب البيان الذي أصدره الفيفا فان الأندية التي يرتكب مشجعوها أعمالا تدل علي العنصرية أو التمييز ستواجه عقوبات تتراوح بين الغاء المباريات وخصم النقاط وصولا الي الهبوط الي درجات أدني أو حتي الاستبعاد من البطولات. وكثيرة هي الأسباب التي يمكن لعلماء النفس والاجتماع سوقها لتفسير ذلك التغير السلبي المفاجيء في الشخصية المصرية،التي طالما اشتهرت بتسامحها المفرط الي حد اهدار الحقوق والتفريط فيها، فالي جانب أطروحة "ثقافة الزحام" التي سبق وأن طرحها الكاتب والمفكر الكبير الراحل أحمد بهاء الدين ،تطل برأسها الاعتبارات الاقتصادية كأحد أبرز دواعي العنف وبواعث التعصب لدي المصريين ،بحيث يمكن الادعاء بأن قسوة الأوضاع المعيشية من ارتفاع متنام ومستفز للأسعار مرورا بالبطالة المتفشية والفساد المستشري واتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء الي مستوي أتي علي الطبقة الوسطي وزج برجالاتها الي قاع المجتمع ،كل ذلك قد جعل من المجتمع المصري ساحة للصراع ليس فقط بين أغلبية فقيرة وأقلية تحتكر معظم أسباب الغني والثراء ،ولكن أيضا فيما بين الأغنياء وداخل شرائح الطبقات الدنيا والفقيرة ،بل ان الصراع النفسي والاجتماعي بين أفراد تلك الأخيرة قد اكتسب طابعا أشد ضراوة وأعظم أثرا علي الفرد والمجتمع في آن.كيف لا؟ وقد صار كل فرد يظن أن ما يحققه غيره من مكاسب انما يعد انتقاصا مما يمكن أن يؤول اليه هو من مغانم، بل ان نفسه غالبا ما تسول له بأن أي مكسب لغيره انما هو خسارة له . ولم تكن السياسة بريئة هي الأخري من جرم تفشي العنف والتعصب في المجتمع المصري مؤخرا علي هذا النحو المثير للقلق ،ذلك أن اكتساء الممارسة السياسية لدي المصريين بطابع العنف والاكراه وافتقادها للحوار السلمي البناء بعد أن بات لأرباب العنف دور محوري فيها يصل الي حد كونهم أداة الفصل بدلا من صناديق الاقتراع ،فضلا عن ضيقها بالتعددية والاختلاف ، ووقوعها فريسة في براثن الاحتكار من قبل البعض فيما أقصي عن ساحتها الكثيرون، كل ذلك قد عزز من اعتماد العنف والقهر كآلية وحيدة فاعلة لبلوغ الغايات وتحقيق الأهداف،حتي أن قيم التفاهم والتعايش والحوار قد أمست ضربا من الخيال وتعبيرا عن الضعف والاستكانة والخنوع. ولئن أفضت العوامل السابقة وغيرها الي أن يغدو العنف والتعصب صنوين للشخصية المصرية في الآونة الأخيرة،فان الحاجة تبدو ملحة لاستنهاض همم المصريين وحشد طاقاتهم ،حكومة وشعبا، من أجل اعادة الشخصية المصرية الي صوابها المفقود حتي لا تصبح العادات والصفات الذميمة التي علقت بها سمات راسخة ملازمة لها . وأحسب أن البداية المثلي تكمن في تبني استراتيجية وطنية للمصالحة مع الذات واصلاح ذات البين أولا، من خلال التربية داخل الأسرة في المنزل ،مرورا بالمدارس والجامعات و مناهج التعليم، وانتهاء بوسائل الاعلام ودور العبادة ،علي أن تسير تلك الاستراتيجية بالتوازي مع تحركات اقتصادية وسياسية جادة تتحراها الحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص وأرباب العمل والثروات من أجل رفع الحصار المفروض علي المصريين في الاقتصاد والسياسة وكل شيء وذلك من خلال مناهضة الفقر ومحاربة البطالة وتقريب الهوة بين الطبقات، وانهاء احتكار العمل السياسي عبر فتح أقنيتة الشرعية والسلمية بغير معوقات ودونما تمييز أو اقصاء لأية قوي سياسية مدنية وطنية.