بعد مرور 47 عاما على رحيل الكاتب والمنظر الحركي لجماعة الإخوان سيد قطب عن الحياة الدنيا يحق التساؤل في ضوء اللحظة المصرية الراهنة: هل وجدت أسئلة المأزق الثقافي التي كان طرفا رئيسيا فيها حلا بعد أن استمرت هذه الأسئلة على مدى سنوات طويلة ضاغطة على الحياة الثقافية والسياسية المصرية؟!. وفي مجتمع متدين بالفطرة والواقع يشكل الخلط بين الدين والسياسة وبين الأفكار والحركة..وبين الكلمة والقنبلة مأزقا ثقافيا خاصة وإن صانع هذا المأزق صاحب قلم وقدرات بلاغية ولغوية رفيعة المستوى، وهو على المستوى الشخصي رجل فاضل لا غبار عليه، ولكنه في فترة ما اتسمت بالاضطراب وشابها قدر من الغموض تبنى أفكارا تصب في خانة التكفير الجماعي ووصم المجتمع بالجاهلية. وبدت هذه الأفكار لدى البعض تحظى بقداسة بفضل سيرة صاحبها، ناهيك عن اسنادها بتأويلات للدين دون إدراك للفارق الجوهري بين النص المقدس وتأويله أو تفسيره بتعدد أولئك الذين يتصدون لهذا التأويل والتفسير وعلى اختلاف التكوين والقدرات والمؤهلات والنوايا والمقاصد والسياقات التاريخية التي عاشوا فيها وتأثروا بها كما أثروا فيها. ولد سيد قطب في قرية "موشا" بمحافظة أسيوط يوم التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1906 وقضي في التاسع والعشرين من أغسطس عام 1966 وعرف بثقافته الواسعة فهو كاتب وناقد وأديب تأثر في مرحلة بعملاق الكلمة عباس محمود العقاد بقدر ما تميز في كتاباته النقدية وسلط الأضواء مبكرا على موهبة الأديب صاحب "نوبل" نجيب محفوظ. وصاحب كتاب "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه" يصل عدد مؤلفاته إلى 26 كتابا غير الكثير من المقالات والطروحات في الصحف والمجلات وكان قد تخرج من كلية دار العلوم عام 1933، وعمل بوزارة المعارف وابتعث للولايات المتحدة لمدة عامين للتخصص في "التربية وأصول المناهج" حيث عاد لمصر عام 1950وعكف على الكتابة جنبا إلى جنب مع انخراطه في العمل السياسي. توجه سيد قطب لأمريكا في عام 1948 بكل دلالات هذا العام في الذاكرة المصرية والعربية من نكبة فلسطين إلى اغتيال رئيس الوزراء المصري محمود النقراشي على يد عناصر من جماعة الإخوان ليبدأ صراعها الكبير مع الدولة المصرية. واللافت أن سيد قطب انخرط في الهم السياسي مبكرا، وكانت السياسة في قلب اهتماماته، فقد انضم لحزب الوفد وانخرط في صفوف هذا الحزب لسنوات حتى تركه لخلافات عام 1942 في فترة اتسمت بأزمة على مستوى الوطن والعالم وراح عديد من المثقفين ايامئذ يبحثون عن سبل الخلاص في عالم مأزوم. انضم سيد قطب لجماعة الإخوان عام 1950 وبات أهم "منظر" لهذه الجماعة على مستوى الفكر الحركي ومسؤول قسم الدعوة بها وسجن عام 1954 في سياق ماعرف "بحادث المنشية"، ومحاولة اغتيال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبوساطة من الرئيس العراقي الأسبق عبد السلام عارف تقرر أن يفرج عنه بعفو صحي في عام 1964. وسرعان ما اعتقل في العام التالي وحوكم بتهمة التآمر على نظام الحكم، وأعدم شنقا عام 1966، واستمرت واقعة إعدامه مثيرة لجدل مثير في الحياة الثقافية والسياسية المصرية لأن سيد قطب جمع ما بين المثقف والسياسي والحركي في تركيبة غير عادية بقدر ما هي مآساوية. وفي خضم هذا الجدل نسى البعض أو تناسوا أن الرجل لم يعدم بسبب أفكاره وإنما جراء أفعاله، وأنه لم يحاكم قط على كتبه وإنما حوكم في أفعال مادية وممارسات تخرج من حيز الفكر لدائرة الحركة والفعل وهي قضية لعلها بحاجة لباحثين منصفين لايضاح وجه الحقيقة وحدها. وثمة حاجة أيضا لباحثين مجدين يجيبون عن أسئلة حول الظروف والملابسات التي اقترنت بانسحاب سيد قطب من حزب الوفد المعروف بليبراليته، وإن كان هذا الحزب في ذات توقيت خروج سيد قطب منه قد عانى من انشقاقات وتصدعات، وما عرف بحادث 4 فبراير 1942 ووصوله للحكم بناء على إنذار بريطاني للعرش مما أثار حنق العديد من العناصر الوطنية وتسبب في تداعيات أسهمت في ظهور حركة الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو 1952. كان سيد قطب شخص مستقيم السلوك قوي الإرادة ومرهف الإحساس وتحمل مسؤولية أسرته الكبيرة مبكرا مع اعتداد بالنفس وصرامة في الانضباط وامتلاك لأدوات المعرفة الموسوعية وتنوع أريحي في الكتابة والإبداع. فهو صاحب ديوان شعر "الشاطيء المجهول" ورواية "الأشواك" وقصة "المدينة المسحورة" وكتاب "طفل من القرية" وهو سيرة ذاتية بدا فيها متأثرا بكتاب "الأيام" لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وكتاب "كتب وشخصيات" الذي جمع فيه العديد من مقالاته النقدية المنشورة في الصحف حول أدباء مثل الرافعي والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ. وعلى مستوى الفكر الإسلامي تعددت أعمال سيد قطب ومن بينها كتب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"المستقبل لهذا الدين" و"التصوير الفني في القرآن" و"مشاهد القيامة في القرآن" و"في ظلال القرآن" و"الإسلام ومشكلات الحضارة" وعمله الأشهر والأكثر إثارة للجدل: "معالم في الطريق". وعلى مدى مسيرته المثيرة لأقصى درجات الجدل عرف سيد قطب شخصيات تتنوع ما بين العقاد ونجيب محفوظ وجمال عبد الناصر، فضلا عن ناشرين وأصحاب مكتبات حتى جاء كتاب "معالم في الطريق" ليكشف عن مخطط حركي، وكان من المثير للدهشة أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو الذي استشعر وجود هذا المخطط وليست أجهزته الأمنية المتعددة في فترة كانت توصف بأنها "مرحلة الدولة الأمنية". ولعلها مآساة سيد قطب بقدر ما هو المأزق الثقافي الذي كابدته مصر عندما اختلطت الأفكار بالأفعال ولم يعد الأمر مجرد آراء وإنما ممارسات تتلبس بالعنف وتختلط بالإرهاب. تقول الدكتورة هدى عبد الناصر كريمة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إن قضية سيد قطب بدأت فعليا بقراءة والدها لكتاب "معالم على الطريق" الذي طرح فيه سيد قطب أفكاره التكفيرية للمجتمع والجاهلية المعاصرة وأن جمال عبد الناصر هو الذي بادر بالاستفسار من أجهزة الأمن حول أنشطة جماعة الإخوان حينئذ بعد أن استشعر خطورة ما ورد في هذا الكتاب من أفكار أحس أن لها ما بعدها من أفعال حركية. اكتشفت أجهزة الأمن بناء على هذا الاستفسار من جمال عبد الناصر أن هناك بالفعل أنشطة خطيرة لجماعة الإخوان وأن الأمر يتضمن اغتيال عبد الناصر وهدم الدولة ليبدأ على حد قول هدى عبد الناصر صراعا وسباقا مثيرا بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان قبل أن تنفذ مخططها وتنال من جمال عبد الناصر.