تعهدت لأنصار الدكتور محمد البرادعي ألا أتناوله بأي تعليق قبل مضي شهر كامل من بداية أغسطس الجاري، وقلت إن الصحافة تمنح الحكومات «شهر عسل» لمدة مائة يوم، كهدنة قبل أن تبدأ عملية التقييم والانتقاد.. وأن «شهرا» هو مدة كافية جدا لسلطة مؤقتة يُفترض فيها أن لا تكمل العام. لكن «تغريدة» تلو أخرى، كتبهما الدكتور محمد البرادعي في الأيام القليلة الماضية استدعتا كسر التعهد، لإبداء ملاحظة واجبة، أو نقطة نظام ، قبل أن تنتهي المهلة التي يبدأ بعدها تقييم ما فات.. والتعامل مع نائب رئيس الجمهورية باعتباره عنصرا في سلطة تنفيذية تخضع للمحاسبة والمساءلة ويجب أن تنتقدها الصحافة وتصوب مسارها، وتلك هي أحد مهام الإعلام ومسئولياته في أي ديموقراطية عصرية. لا أتناول هنا المتداول حول موقف الدكتور البرادعي من فض الاعتصام في كل من رابعة العدوية وميدان نهضة مصر ، والمعروف أنه لا يريد أن يتم باستخدام قوة الدولة، وإنما من خلال مفاوضات ونقاشات يجريها مع أطراف دولية ومحلية ، ما يقتضي تنازلات من الدولة بلا شك.. وما يعني أن مصر تدير موقفا لا تتحرك وفق ثورة أطاحت في 30 يونيو بحكم الإخوان ورئيسهم ومرشدهم وأعلنت بكل وضوح رفضها الكامل لمشروع التدين المتطرف والإرهاب المعاون له . وإنما أتناول - وفق مقتضيات تفرضها «نقطة النظام» الاستثنائية الكاسرة لتعهدي - ثلاثة مفاهيم تطرق إليها الدكتور البرادعي في تغريداته منذ يوم 6 أغسطس ، تتعلق بطريقة تفكيره ونظرته للأمور ومنطق التعامل مع الإعلام والنخبة المثقفة التي علقت كثيرا على ما يقوم به في أزمة الاعتصام المزدوج.. وأعني بذلك ما يلي : * حديث الدكتور يوم 6 أغسطس عن أن عمله لتجنب الوطن الانزلاق في دائرة عنف لا يصل إلى الجرائد الحكومية عدا مقالات عن خطورته على الشعب والدولة. * حديثه يوم 10 أغسطس عن أن معركته هي مع الاستبداد بجميع أشكاله وصوره، وقوله «ثورتنا قامت لنستعيد عقلنا وقيمنا وإنسانيتنا» مردفا «ويمحق الله الباطل ويحق الحق بكلماته». * حديثه يوم 11 أغسطس عن الحملة التي يتعرض لها منذ يناير 2010 ، من جانب «أذناب مأجورة» رأى أنها «في محاولات يائسة من أجل استمرار الاستبداد». ما قاله الدكتور محمد البرادعي في يوم 6 أغسطس عن «الجرائد الحكومية» كان تعلىقا منه على مقال الأستاذ جمال الغيطاني في جريدة «الأخبار» .. وقد تعرض الكاتب الكبير إلى حملة شعواء من أنصار الدكتور البرادعي ردا على مقاله المنتقد ، والذي وصل إلى مستويات بعيدة من الشراسة والقسوة. ولكن المشكلة هنا لم تكن في كاتب ذهب بعيدا .. وإنما في مسئول في الدولة يشكو «الجرائد الحكومية» علنا.. ويشكو من أن عمله لا يصلها .. في حين إن الطبيعي في أي مسئول في مجتمع ديموقراطي أن يتواصل مع تلك الصحف ..وغيرها.. وأن يشرح نفسه لها .. إن لم يكن علىه كذلك أن يتواصل مع الكاتب نفسه. إن ما كتبه جمال الغيطاني لم يكن رأيه وحده، وهو يعبر عن نسق في الرأي العام له حجمه المؤثر، وسواء اختلفت معه أو اتفقت ، فإن هذا يعني أن ما يذهب إليه البرادعي لا يحظى بالقدر المناسب من المساندة العامة.. لا صحفيا ولا شعبيا ..وفي أصول السياسة لا يكون هذا عيب الرأي العام أو الصحافة وإنما عيب صاحب القرار السياسي الذي يبدو أمام فئة عريضة «ضد الشعب والدولة». في نهاية الأمر كانت تغريدة «6 أغسطس» معبرة عن تعالٍ سياسي واستخفاف بما كتب عنه الدكتور البرادعي ، لكن تغريدة «10 أغسطس» أظهرت انتقالا نوعيا في مستوى ردود أفعاله، حين شخص معركته على أنها مع «الاستبداد بكل صوره» . وقد علقت على حسابي في «تويتر» مساء يوم السبت قائلا: «نؤيد موقف الدكتور البرادعي ضد الاستبداد ..من الذي يمكن أن يوافق على الاستبداد». لكنني أضيف هنا : أي استبداد يقصد السيد نائب رئيس الجمهورية؟ هل يقصد الدكتور البرادعي استبدادا في السلطة التي ينتمي إليها ؟ كيف يكون عضوا في سلطة مستبدة؟ وكيف يقبل ذلك ؟ وكيف يمكن أن يقاوم استبداد سلطة هو جزء منها؟ هل أصبح يؤمن بمنطق الإصلاح من الداخل؟ أنا أؤيد هذا ..ولكن على الدكتور البرادعي أن يقولها صريحة.. ما هي أساليب إصلاحه .. ولمن سوف تتوجه .. وكيف يمكن ضمان نجاحها؟ أم لعل الدكتور نائب رئيس الجمهورية يقصد الاستبداد الذي يمثله التطرف الديني والإرهاب المسلح والعنف الفكري الذي تمثله جماعة الإخوان وكل من هو على شاكلتها . إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يقول هذا علنا ..لماذا لم ينتقد استبداد الإخوان والتطرف .. وما يمثله الاعتصام المزدوج في كل من رابعة العدوية وميدان نهضة مصر من استبداد لأقلية على أغلبية رافضة؟ أم أن الدكتور البرادعي يقصد الاستبداد الدولي ، وما تقوم به الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي من ضغوط على القرار المصري.. هذا بدوره نوع من الاستبداد الذي يشعر به كل المصريين ويرون أنه قد حان الوقت للخلاص من ذلك. على كلٍّ ، ذهب الدكتور نائب رئيس الجمهورية إلى ما هو أبعد من ذلك ، وبدا متوترا أكثر في تغريدة يوم «11 أغسطس» حين ربط بين ما يتعرض له الآن من انتقادات وما يتعرض له منذ يناير 2010 .. والواقع إن ربطه هذا يعني أنه يعفي حكم مبارك من ادعاء مؤيديه بأنه كان يتعمد تشويهه.. فقد انتهى حكم مبارك وهو نفسه في السجن .. والمعنى إن الموقف الذي ربطه كله الدكتور البرادعي في خيط واحد لا علاقة له بسلطة ما .. إلا إذا كان في داخل السلطة التي ينتمي إليها من يحرض علىه ونحن لا نعرف ..وسيكون هذا معنى خطيرا جدا إن صح. الأهم إن السيد نائب رئيس الجمهورية اعتبر أن الهجوم علىه يأتي من «أذناب مأجورة» .. وهذا كلام شديد الوطأة وأخطر من سابقه.. فأولا من الذي يستأجر علىه من يهاجمه..وكيف يمكن أن يعتبر الدكتور المفكر المؤمن بحرية الرأي أن كل من ينتقده هو «أجير» قبض ثمن انتقاده له .. أليس هذا استبدادا بالرأي من جانب الدكتور البرادعي الذي يرى أن معركته مع الاستبداد؟ أضف إلى ذلك أن تعبير «الأذناب» يمثل دلالة فوق متخيلة، ولا يمكن توقعه من رجل في حجم الدكتور البرادعي .. وهو تعبير لغويا يعني أن من يشير إليهم الدكتور البرادعي «مآخير» ل «مقدمات» ، أو «ذيول» ل «رؤوس» .. وذلك لا يفرق كثير أبدا عن تعبير «الفلول» الذي اصطكته جماعة الإخوان لكل من وقف ضدها ..وكان الإخوان حينا يقولون إن البرادعي تحالف مع الفلول .. كما أن العبارة بمفردتيها ..أي «الأذناب المأجورة» لا تختلف أبدا عن عبارة مرشد الإخوان الفار في الاعتصام المحمي حتى اللحظة بجهود الدكتور البرادعي التفاوضية والذي وصف كل الإعلام المنتقد بأنه «سحرة فرعون» . لقد اتهم المرشد منتقديه بالكفر ، وجعلهم سحرة ، ينتظرون الرد السماوي عبر نبي الله موسى، بينما اتهمهم البرادعي بأنهم «مأجورون» و«أذناب» .. ليعبروا عن آرائهم وإنما يعبرون عن «خفي» يدفع لهم .. وفي الحالتين كان هذا يؤمن بمؤامرة تحاك وكان ذاك يؤمن بأنه يواجه مؤامرة وتشويها. هذه ثقافة مستبدة في الحالتين ، ترفض الرأي الآخر، وإذا كنا نرفض التشويه.. ونصر على التمسك بدور الصحافة في مراقبة السلطة التنفيذية.. وهو دور سيكون كبيرا إلى أن يتم انتخاب مجلس نواب يتقاسم تلك الصلاحية الرقابية مع الصحافة.. فإننا نرفض هذه الطريقة البرادعاوية مع كل صاحب رأي مخالف، خصوصا إذا كان أصحاب هذا الرأي صاروا متنوعين وينتمون إلى اتجاهات مختلفة وليس اتجاها واحدا دون غيره..وبينهم من كان من أشد أنصار الدكتور البرادعي تطرفا . بقى تساؤل أخير: لقد قال الدكتور البرادعي إنه لا يطمع في سلطة ولا يريد أن يكون رئيسا للجمهورية، وأنه يفضل فقط أن يقوم بدور المدرب بينما الآخرون يلعبون ، وبغض النظر عن هذه النظرة الاستعلائية.. فإن التساؤل هو : إذا كان الأمر كذلك ، وكان البرادعي لا يريد شيئا .. ما الذي إذن يضايقه وقد قرر أن يقوم بمهمة في المطلق لا يريد من ورائها قصدا ولا يسعى من خلفها إلى هدف؟ أليس معنى توتره أن لديه مقصد ..وأنه يخوض صراعا من أجل هدف ما لم يعلن عنه؟ انتهت نقطة النظام، وأعود من جديد إلى صمت عن التعلىق على الدكتور محمد البرادعي وأدائه وسياساته ومواقفه، كمسئول تنفيذي ، يحتل موقعا متقدما في السلطة لن يكون ولا ينبغي أن يتوقع أن يكون منزها عن النقد .