منذ اعتماد اتفاقية حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزه عام 2005، شهد المشهد الثقافي العالمي تطوراً مهماً نتيجة تصاعد تأثير عمالقة الإنترنت، وزيادة انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، والتحول الرقمي الكبير الذي أثر تأثيراً شاملاً في أساليب إنتاج الممتلكات الثقافية ونشرها، وغير ذلك. ويستكشف التقرير المعنون «إعادة النظر في السياسات الثقافية» الذي قُدّم في «يونيسكو» أول من أمس، هذه التطورات وما أفضت إليه الاتفاقية المذكورة من تداعيات. دخلت اتفاقية حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزه، التي اعتمدتها «يونيسكو» العام 2005، حيّز التنفيذ العام 2007، وتضم الآن، 141 دولة وقّعت عليها، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي. مبادلات لا تستفيد منها سوى البلدان الصناعية تعزيز الانتفاع المنصف بمجموعة واسعة النطاق من أشكال التعبير الثقافي من العالم أجمع: يرمي المبدأ التوجيهي للاتفاقية المذكورة إلى تحقيق تبادل منصف للممتلكات والخدمات الثقافية في العالم. غير أنه بعد مرور عشر سنوات على اعتماد الاتفاقية، ما زالت البلدان الصناعية تهيمن على هذا المجال في شكل كبير. تمثل قيمة صادرات الممتلكات الثقافية على الصعيد العالمي 212.8 مليار دولار تبلغ حصة البلدان النامية منها ما نسبته 46.7 في المئة، مقابل 25 في المئة العام 2004. وتدعم الصادرات الثقافية من الصين والهند هذه الزيادة الكبيرة، إذ إن هذين البلدين ينافسان في شكل متزايد البلدان النامية. وبغض النظر عن هذين البلدين، فإن حصة السوق للبلدان النامية لم تتجاور ما نسبته 5 في الئمة بين عامي 2004 و2013. ويُلاحظ أن البلدان المتقدمة تستورد أساساً المنتجات الموسيقية والممتلكات السمعية البصرية من البلدان النامية. ومثلت حصة هذه الممتلكات المستوردة من البلدان النامية ما نسبته 39.6 في المئة العام 2013. أما الكتب والوسائل الصحافية، فإنها تمثل المجموعة الثانية الأكثر أهمية، إذ تبلغ نسبتها 32.3 في المئة من حصة الواردات من البلدان النامية. الثورة الرقمية أفضى اتساع نطاق شبكات التواصل الاجتماعي والمضامين التي ينتجها المستخدمون، وتعميم الأجهزة المتعددة الوسائط المرتبطة بالإنترنت، وزيادة انتشار كميات البيانات المتاحة إلى ظهور أطراف فاعلة جديدة وممبرات جديدة لاستخدامها. ولا تعود هذه الثورة إلى البلدان الصناعية وحدها، إذ إن مناطق عديدة في الجنوب أحرزت تقدماً هائلاً، ولاسيما في مجال الاتصال. ففي أفريقيا، بلغت معدلات انتشار الهواتف المحمولة ثلاثة أمثالها بين عامي 2007 و2012. كما تتيح التكنولوجيا سماع أصوات جديدة في وسائل الإعلام العامة. فقد نشأت أطراف فاعلة جديدة من بينها الصحافيون المواطنون ومنتجو أفلام الهواة الذين يعيدون رسم حدود الصحافة. وبالمثل، فإن حماسة الشباب إزاء الإبداع السينمائي بلغ درجة من القوة أكثر من أي وقت مضى. فقد زاد إنتاج الأفلام الروائية في البلدان النامية في شكل كبير بين عامي 2005 و2010، إذ ارتفعت نسبته من 3 في المئة العام 2005 إلى 24 في المئة العام 2013. أما إنتاج الأفلام الوثائقية فقد ارتفع من 1 إلى 25 في المئة في الفترة ذاتها. غير أن هذه التطورات تجري جزئياً على حساب التنوع اللغوي. فالواقع أن 80 في المئة من المضامين الإلكترونية تُبثّ باللغات الإنكليزية والصينية والإسبانية واليابانية والبرتغالية والألمانية والعربية والفرنسية والروسية والكورية. وثمة تحد آخر يكشف عنه التقرير، ومفاده بأن تصاعد تأثير عمالقة الإنترنت من شأنه أن يُضعف الانتفاع بتنوع الاختيارات الثقافية. فقد جاء في التقرير «على رغم أن البرامج الإلكترونية توفر نسقاً واسع النطاق من الخدمات الثقافية، فإنها لا تتحكم في عمليات البيع فحسب، ولكن عمليات الاتصال والحسابات والتوصيات تطرح عدداً من المشكلات». تعزيز السياسات لمواجهة هذه التطورات، اتخذت بعض البلدان الموقعة على الاتفاقية المذكورة تدابير من أجل إعلاء شأن سلسلة إنتاج الممتلكات والخدمات الثقافية. ويُذكر منها على سبيل المثال إقامة دخل تضمنه الحكومة النرويجية لمصلحة الفنانين. كما اعتمدت الكوت ديفوار تدابير العام 2013 لتعزيز النشر والقراءة. أما في الأرجنتين، فقد أتاح قانون خدمات الاتصالات السمعية المرئية لعام 2009 الارتقاء بالمضامين المحلية التي تبثها القنوات في البلاد بما نسبته 28 في المئة. يؤكد التقرير أيضاً أن اتفاقية «يونيسكو» المذكورة قد استخدمت في شكل متزايد في الاتفاقات التجارية الكبرى الخاصة بالتبادل الحر من أجل تعزيز خصوصية الممتلكات والخدمات الثقافية. غير أنه ما زال هناك الكثير الذي ينبغي القيام به لتحقيق تقدم في مجالات أخرى، ولاسيما من أجل تعزيز وضع النساء في بعض المهن الثقافية، وتيسير حراك الفنانين من بلدان الجنوب، فضلاً عن إدماج البعد الثقافي في استراتيجيات التنمية المستدامة. يذكر أن هذا التقرير، الذي حظي إعداده بدعم من حكومة السويد في إطار مشروع «تعزيز الحريات الأساسية من خلال تعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي»، أنجز استناداً إلى تقارير قدمتها 71 بلداً موقعة على الاتفاقية المذكورة، واستكمل بناءً على دراسات مختلفة. ويدرس هذا التقرير الآثار الناجمة عن الاتفاقية بالقياس إلى أربعة أهداف هي: دعم نظم الإدارة المستدامة للثقافة، والتوصل إلى تبادل متوازن للممتلكات والخدمات الثقافية وزيادة الحراك، وإدماج الثقافة في إطار التنمية المستدامة وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية.