ضحكة ساخرة من داخل القبر سعد محيو كتب الكثير عن قبر “العبّاد"، ذلك المتعبّد الحديث عند المسلمين وأحد أبرز حاخامات القرن الخامس عند اليهود، والذي قسمته الأممالمتحدة بالعدل والقسطاس بين الطرفين. لكن رؤية هذا الضريح، الذي يقع على تلة تشرف على قرية حولا اللبنانية ومستعمرات الجليل، تختلف تماماً عن السمع أو القراءة. هنا، تختصر كل جغرافيا الشرق الأوسط في مساحة مترين، ويتكثّف كل التاريخ في حدود جملتين، ويغيب الفارق بين مضمون الحياة ومعنى الموت خلال لحظتين. وراء النصف اللبناني (العربي الإسلامي) من الضريح، لا يوجد شيء يشي بوجود أي معلم من معالم “القلق الوجودي". لا أسلاك شائكة. لا جدران اسمنتية. لا مواقع عسكرية، عدا نقطة يشرف عليها “مسلمون إندونيسيون" من قوات اليونيفيل، وعدا دوريات درّاجة كل ساعتين أو ثلاث لعناصر من حزب الله تذكّر “الإسرائيليين" بما قد ينتظرهم إذا ما عبروا الحدود. المشهد على المقلب “الإسرائيلي" هو النقيض تماماً. وراء الضريح مباشرة هناك جدار اسمنتي كثيف بعرض مترين تقريباً تزنره أسلاك شائكة غليظة، وتتخلله دهاليز وممرات أشبه بأفلام الرعب. ومن تلة العباد نزولاً، المزيد من الأسلاك الشائكة والمكهربة والممغنطة، والمزيد من الجدران الصلبة، والكثير من المواقع العسكرية الظاهرة والخفية. وعلى مرمى حجر من الموقع، هناك مركز تنصّت إلكتروني يقال إنه يغطي كل لبنان وسوريا والأردن، وصولاً حتى قبرص. أسأل ابن حولا ورئيس بلديتها السابق الصديق والزميل رفيق نصر الله، الذي شيد منزلاً وقربه مسجداً (تخليداً لذكرى ولده) على مرمى حجر من الحدود، عن أسباب هذه المفارقة على جانبي القبر، فيجيب سريعاً بتحليل سايكولوجي تاريخي: “الإسرائيليون، كالصليبيين قبلهم الذين احتلوا هذه المنطقة قبل نحو ألف عام، يعتمدون في وجودهم على نظام القلاع المتصلة، ربما بسبب شعورهم الواعي واللاواعي بأنه لا علاقة لهم بهذه الأرض. القلعة هنا رمز لمزيج من مشاعر الذنب والخوف والقلق الوجودي". “ثم (يضيف رفيق) ثمة مسألة تاريخية ترسم حول حولا وتلالها حدود صراع دموي قد يكون أبدياً. ففي العام 1947 دخل “الإسرائيليون" إلى حولا وارتكبوا مذبحة مروّعة بحق 89 لبنانياً. الهدف بالطبع كان التهجير العربي تمهيداً للتوطين اليهودي. لكن انظر ماذا حدث بعد 60 عاماً. حولا بقيت وتوسعت وانفتحت، خاصة بعد التحرير العام 2000 (أكبر نسبة أطباء ومهندسين فيها، إضافة إلى النسبة الاعلى من التسييس)، و"إسرائيل" انغلقت وتقوقعت داخل أسلاكها الشائكة وجدرانها التي هي في الواقع أقرب إلى جدران السجن منها إلى أسوار الحماية. حولا الصغيرة بصمودها ومقاومتها أثبتت أنها أقوى من أقوى قوة في الشرق الأوسط. وهذا الكلام ليس استعارة أو مجازاً. إنه حقيقة واقعة". حين كنا نهم بمغادرة موقع قبر العبّاد، ظهر فجأة جندي “إسرائيلي" مدجج بالسلاح وأطل برأسه من وراء الجدران الأسمنتية قائلاً لنا (بالعربية) “سلام". لم يرد أحد منا عليه. لكن خيل إلينا أننا نسمع ضحكة ساخرة تنطلق من داخل الضريح، مشفوعة بكلمات أكثر سخرية: “قال سلام، قال"! عن صحيفة الخليج الاماراتية 14/6/2008