يقودون التاريخ نحو الوراء باسم التغيير والمقاومة عبد الله عواد في العام 1986 توجه شمعون بيريس وزير الخارجية الاسرائيلي حينذاك في حكومة الائتلاف الى المرحوم رشاد الشوا رئيس بلدية غزة وقال له بالحرف الواحد اذهب للاردن ولمصر.. وتفاوض معهم لتسليمهم قطاع غزة، وكانت الاجابة الرفض من الدولتين وهي الاستراتيجية الاسرائيلية الثابتة لكيفية التخلص من هذه الجغرافية الصغيرة المكتظة بالناس البائسين اقتصادياً والذين كانوا يعيشون على العمل في الدولة العبرية، ودون مساعدة الخارج، فإن الحياة تتحول الى جحيم. لا أعود نحو الوراء نحو التاريخ نحو هذه الوثيقة كي أصل في النهاية لمنطق المؤامرة في قراءة ما هو كائن وانما بهدف معرفة ما يكون.. في ضوء هذا الكائن، والذي يجرده كثيرون من أبعاده السياسية ويحصرونه في البؤس الاقتصادي ولم يكن صدفة ان الدولة العبرية وخلال مفاوضات أوسلو السرّية كانت تصر على غزة أولا وكفى.. والتي كادت تدفع بالمفاوضات نحو الفشل.. مع إصرار أبو عمار شخصيا على غزة وأريحا أولاً والأخيرة تعني الضفة والاثنتان تعنيان رمزية وحدة الوطن وحدة الارض المقسمة بالاحتلال.. الوحدة السياسيّة.. ووحدة الجغرافيا رغم افتراقها بالاحتلال. إن وحدة الجغرافيا بين الضفة وغزة كأرض فلسطينية كانت الهاجس القلق.. والحساس عند ابو عمار.. ولم يكن إصراره على البقاء في الضفة إلا لحسابات سياسية واضحة في ضوء الحقيقة التاريخية أن الهدف للاحتلال ليس قطاع غزة.. وانما الضفة (يهودا والسامرة) القدس.. خزانات المياه الجوفية والأرض.. ولهذا أصر على البقاء في الحصار والموت تحت الحصار على مغادرة رام الله. ان الدولة العبرية التي خرجت من قطاع غزة في العام 1956، هي نفسها التي أرادت الخروج منه وخاصة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد ولم يكن الاستيطان فيه إلا من باب المشاكسة ليس أكثر. حين أخرجت الدولة العبرية مستوطنيها وقوات احتلالها من قطاع غزة وبدأت بتنفيذ استراتيجية واضحة، وهدف قديم موضوع على الطاولة قبل ذلك بسنوات طويلة ماضية، فهي تريد أولاً التخلص من كتلة بشرية مكلفة للاحتلال وثانياً: من جغرافية لا يوجد فيها ما يستدعي البقاء.. وثالثا: التخلص من ديمغرافية كثيفة تشكل ازعاجاً لها في لعبة الصراع الديمغرافي فوق جغرافية فلسطين التاريخية. ان الذين قدموا-إخراج مستوطني وقوات الاحتلال-من قطاع غزة كانتصار، وانتصار فصائلي، للذين تباروا في تبني هذا الانتصار، قرأوا هذه الاعادة لانتاج الاحتلال من منظور فصائلي ضيق ولم يقرأوه من منظور وطني شمولي، وصدقوا كذبة دولة الاحتلال بأنها تُفكر بانسحاب أحادي آخر من الضفة، بينما كانت النتيجة على الارض عكسية زيادة وتيرة مصادرة الارض عبر الجدران والاستيطان واغلاق الطرق وفتح طرق بديلة للفلسطينيين.. وزيادة حرب حصار الفلسطينيين في الضفة عبر ما شاء من الحواجز، والاغلاقات. اذا كانت الدولة العبرية.. بهذا الانسحاب الأحادي من قطاع غزة قد خلقت واقعاً جديداً على الأرض بينه وبين الضفة، فإن المسألة كانت تحتاج لاعطاء هذا الواقع بُعدا سياسياً يُجسّد الانفصال الجغرافي.. بانفصال سياسي فلسطيني داخلي. وهكذا.. كانت المقدمات حاضرة في الصراع بين حماس ومنظمة التحرير للاستحواذ على الشارع، واحلال حماس مكان المنظمة وتعود لأكثر من عشرين سنة.. ومع دخول حماس الانتخابات التشريعية أخذ الصراع شكله الحضاري عبر اللعبة الديمقراطية ولكنه حمل معه مأزقاً داخلياً، تمثل باحتكار السلطة بدل المشاركة وكان الحسم العسكري الذروة. إن حركة حماس حين أقدمت على (حسمها العسكري) في القطاع عبر مليشياتها كانت مدفوعة بشهوة السلطة دون حساب النتائج السياسية على الأرض عدا حساب الاقتصاد.. وما شابه.. وبذلك مثلّت هذه الخطوة.. طعنة للوحدة المعنوية السياسيّة بين القطاع والضفة.. وصبت في خدمة مشروع الدولة العبرية. وبسيطرة حركة حماس على القطاع.. خلقت واقعاً جديداً واقع الانفصال السياسي بين الضفة والقطاع، ورغم أن المدفوعين برؤية ضيقة، اعتقدوا أن هذا الواقع سيكون قصيراً.. وعابراً.. لا يتجاوز الشهرين، فإن حسابات السياسة والمصالح غيرها حسابات العواطف، فالدولة العبرية، التي رأت في هذه الخطوة.. تحقيقاً لما فشلت في فرضه على الفلسطينيين خلال مفاوضات أوسلو معنية باستمرار الوضع كما هو وتعميق هذا الانقسام بين القطاع والضفة. واذا كانت حسابات حماس من وراء إطلاق الصواريخ، هي الضغط لفك الحصار عنها، فإن حسابات الدولة العبرية من الحصار وتصعيد حربها تهدف لفك العلاقة نهائيا مع قطاع غزة.. والدفع به نحو مصر تحقيقاً لرؤية وهدف قديم، وهو إعادته نحو ما كان قبل حرب العام 1967، والاحتلال.. وبذلك إعطاء الانقسام والانفصال بين القطاع والضفة بعداً عربياً، فهل تسير الامور نحو هذا الاتجاه؟! وفقاً لابسط المبادئ، فإن الضغط يقود للانفجار، ولم تكن هذه النتيجة غائبة عن صناعة القرار في الدولة العبرية التي أوصلت الضغط لمداه النهائي على القطاع عبر إغلاق الحدود وبالمطلق ولكن.. بأي اتجاه يكون هذا الانفجار؟! اذا كانت حسابات تل ابيب تقوم على تجذير هذا الانقسام السياسي الفلسطيني المرتبط بتقسيم جغرافي.. فإن الانفجار نحو الداخل سقوط حماس يشكل خطاً أحمر لأنه سيخربط حساباتها.. لهذا بالضبط فإن الانفجار نحو مصر هو "الاحتلال الاكبر" وبذلك رمي القطاع في أحضان مصر.. وتحقيق هدفها الذي فشلت فيه منذ اتفاقات كامب ديفيد.. باعادة القطاع لمصر بالاتفاق السياسي.. باعادته عبر فرض الأمر الواقع.. وهذا المغزى لحديث مسؤول في حكومة أولمرت (على مصر تدبر أمر القطاع). إن مصر ورغم الاحاديث العاطفيّة عن حاجة فلسطينيي القطاع للغذاء والدواء، التي تقف وراء هذا الاندفاع الجنوني الفوضوي للناس نحو مصر.. ومدنها الحدودية، فإنها قلقة من هذه المسألة من فرض الأمر الواقع عليها. لاعتبارات كثيرة، مصر ليست مرتاحة لهذا التدفق الجماهيري على أراضيها، وهذا الانفجار الذي حصل باتجاهها.. وذلك أولاً: من منطلق قومي.. هي حريصة على الدولة الفلسطينية في أرض العام 1967 (القطاع والضفة)، والوحدة الجغرافية والسياسية بينهما. وهذا المتغير يصب بالضد من ذلك ومن المصلحة المصرية في الدولة فوق الأرض ثانياً: لا توجد مصلحة لمصر بتدفق عشرات آلاف المواطنين الى اراضيها، سواء بفعل الحصار الاقتصادي أو العدوان الاحتلالي المستمر أو القمع الداخلي، كنتيجة طبيعية لسيطرة نظام الحزب الواحد. وثالثاً: إن آلاف الفلسطينيين وربما عشرات الالاف.. (كما دلّ تدفق مئات الآلاف على مصر).. سيكونون جاهزين للهروب من القطاع والهجرة نحو الخارج عبر مصر.. وهذا يتعارض مع السياسة المصرية، ورابعاً: إن السلطة المصرية تعيش اشكالية قائمة مع الاخوان المسلمين في مصر، والحاق القطاع بمصر في ظل (حكم حماس) التي هي جزء من حركة الاخوان سيفاقم مشكلة (الأمن المصري).. لهذا بالضبط كانت "الدعوة التي أطلقها الرئيس المصري للحوار بين حماس وفتح في محاولة للخروج من هذا المأزق ربما من مصلحة حكومة حماس في القطاع، تصدير (المأزق) والانفجار نحو الخارج، المصري بعد فشل تصديره نحو الدولة العبرية، بكل نتائجه السياسية، ولتلافي الانفجار نحو الداخل، ولكن أين سلطتها على الأرض.. ولماذا تركت الوضع دون تدخل، حتى في تنظيم الخروج من القطاع لمصر؟! ولماذا لم تعمل على وقف هذه الفوضوية في اليوم التالي؟! ان آلافاً مؤلفة من الذين اندفعوا ويواصلون الاندفاع نحو الأرض المصرية.. سيحاولون البقاء في مصر أو الهجرة خارج مصر فأين المصلحة الفلسطينية في ذلك؟! وأين المصلحة الفلسطينية في خلق أزمة لمصر؟ ان الجوع ابو السياسة؟! فأية نتائج سياسية ستكون لهذا الجوع الناجم عن حصار الاحتلال. إن المقدمات حتى اللحظة وإن لم يتم تغييرها تدل على العودة نحو التاريخ نحو ما قبل حرب الايام الستة، نحو الحاق القطاع الآسيوي بمصر الافريقية، بكل ما سيكون لذلك من انعكاسات سياسية على وضع الضفة. عن صحيفة الايام الفلسطينية 27/1/2008