الصفوة الفلسطينية إلى أين؟ * د. أسامة محمد أبو نحل
إن الحديث عمن يسمون بالصفوة الفلسطينية شائك ومعقد، والحديث عنه ليس سهلاً، ويحتاج إلى تركيز؛ ناهيك عن إنه يجب تناول ذلك الموضوع بجدية وشفافية مطلقة، بعيداً عن الانتماءات والأيديولوجيات. لكن علينا أولاً تحديد من هم أولئك الصفوة في المجتمع الفلسطيني؟ وبادئ ذا بدء؛ فإننا لن نستثني أحداً منهم؛ أي: سواء المقيمين على أراضي السلطة الفلسطينية أم خارجها في المنافي والشتات أم المقيمين داخل فلسطينالمحتلة عام 1948م.
وإذا جاز لنا أن نبدأ بالصفوة ممن نطلق عليهم أهل الحل والعقد، أي: الساسة الحكّام؛ إن صحَّ أن يكونوا صفوة؛ مع إننا لا نراهم أهلاً لتلك التسمية؛ لأنهم شطّوا كثيراً عن جادة الصواب. وأهل الحل والعقد الذين نقصدهم هنا، هم: الحكّام سواء في رام الله أم في غزة. هؤلاء الرهط للأسف الشديد لم يعد الهم الفلسطيني يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، ولم تعد المصلحة العليا للوطن تعنيهم؛ فانجرّوا وراء شهواتهم في الحكم؛ ومن أجل شهوة الحكم شهِدنا مناكفاتهم السياسية في الآونة الأخيرة، ووصل بهم الحال إلى الصدام العسكري؛ مما أدّى إلى انقسام المجتمع الفلسطيني بين قيسٍ ويمن، عفواً أقصد بين فتحٍ وحماس، فخُربت الديار، وحدث الشِقاق بين الإخوة من أبٍ واحد وأمٍ واحدة، وتناسى الحزبين ومريدهما، أقصد عبيدهما عن عمد مصير قضيتهما المصيرية؛ فبات كلٍ منهما يُغني على ليلاه.
هذا يتفاوض مع عدوٍ شرس حول قضايا ستحدد مصير الصراع دون أن يملك أدنى مقومات التفاوض؛ قد يترتب عليها التنازل عن أمورٍ تُعدُّ من الثوابت الوطنية كمصير القدس واللاجئين في الشتات؛ وذاك متمترس خلف موقفه ويرى أحقيته في الحكم؛ ولا يوجد بين الطرفين مسافة كافية للتلاقي، ولا يوجد بين الطرفين من يقدُّم المبادرة للاحتكام للغة العقل والمصلحة العليا لِما فيها الصالح العام؛ وبالتالي فقد الطرفان أهليتهما للحكم بعدما غلّبوا لغة المصالح الحزبية والتنظيمية على لغة الوفاق والحفاظ على ما تبقّى من قضية تجمعهم.
وأهل الصفوة الفلسطينية في المقام الثاني، هم الأكاديميون ومن لفَّ لفهم من أهل العلم والثقافة؛ وعلى الرغم من أن هؤلاء الصفوة هم المقدمون على بقية طبقات الشعب؛ إلاَّ أنهم حادوا عن جادة الصواب؛ فهم إما: مؤطرون يخدمون فِكر هذا التنظيم أو ذاك من تنظيمات الساحة الفلسطينية، حتى لو خالفوا قناعاتهم، أو منافقون متملقون لا يريدون أن يخسروا ذلك التنظيم أو ذاك، لهم ألف وجه، ويعشقون اللعب على الحبال، أو مستقلون لا مع ذلك ولا ذاك، لكنهم لا حول ولا قوة لهم وسط غابة من المتسلقين؛ فإن قالوا قولة حق كيلت لهم الاتهامات بأنهم غير وطنيين، في مجتمعٍ فقد بوصلته الوطنية، وتفرّق إلى شيعٍ وأحزاب غير سوية؛ إلاَّ أن ذلك لا يعفيهم من المسئولية. والحق يقال: إن الطرفين الأولين فقدا دورهما الوطني الذي كان من المفترض أن يقوما به لخدمة الوطن والمواطنين؛ وأصبح جلَّ اهتمامهم الحفاظ على راتبهم واللهث وراء المزيد من المال، دون تدبُّر لمصلحة الوطن وشبابها الذين هم عماد المستقبل والمحررين للوطن المسلوب.
إن المؤسسات الأكاديمية الفلسطينية والتي تضم بين أجنحتها صفوة المجتمع، فقدت قيمها العلمية والبحثية والروحية، بعدما انشغل أكاديميها عن تلك القيم؛ بأمورٍ تافهة تخص الحزبية والتحزُّب، وباتت تلك المؤسسات مجرد دور لإصدار المؤهلات والشهادات التي تفتقد للعلمية؛ فالشاب يريد شهادة ولا يريد علماً إلاَّ ما ندر؛ ولم يعد ثمة أكاديمي على الساحة الفلسطينية قدوة لعشاق العلم والتعلُّم، بعدما رأى هؤلاء الشبان أن من يتلقون العلم على أيديهم منشغلين عنهم بقضايا حزبية وتنظيمية لا فائدة مرجوة منها.
إن هؤلاء الصفوة من الأكاديميين الذين كان من المفترض أن يقودوا الشعب وقضيته إلى بر الأمان والانعتاق من عبودية التنظيمات البالية، وأن يكونوا هم القادة الفعليين، صاروا للأسف بالفعل دُمية بأيدي أنبياء، أقصد قادة التنظيمات، يلبُّون رغباتهم في استقطاب الأكاديميين الآخرين أو حتى الشبان لفصائلهم؛ فلم يعد الأكاديمي ذا قيمة في المجتمع الفلسطيني، بعدما أصبح تابعاً لمجالس الطلبة في الجامعات؛ لعله يحصل على منصبٍ إداري مرموق في الجامعة من خلالهم، ولا يهم الثمن الذي سيدفعه لقاء ذلك من كرامته وعلمه.
إن الأكاديميين هم أمل المستقبل للأجيال الفلسطينية، ويجب أن يحافظوا على مكانتهم المرموقة التي يُفترض يتربعوا على عرشها؛ وعلى الرغم من إن دورهم الآن هامشي؛ إلاَّ أنه مهم في المنظور القريب. لقد كان يُفترض بالقيادة الفلسطينية؛ أن تختار من صفوة الأكاديميين المختصين من يضطلع بدور التفاوض مع عدوٍ شرس، لا الاعتماد على عُصبة من المفاوضين الذين لا نرى سواهم منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، أثبتوا فشلهم في المهمات التي أُنيطت بهم؛ وكأن الله لم يخلق غيرهم ولا في خبراتهم بين الفلسطينيين.
وأهل الصفوة الثالثة في المجتمع الفلسطيني، هم: قادة التنظيمات سواء في الداخل أم في الشتات؛ فإن هؤلاء القادة وآلهتهم، أقصد تنظيماتهم وعبيدهم، كان من المفروض أن يعملوا لصالح القضية المصيرية والتي دأبنا على تسميتها بالقضية الفلسطينية؛ غير إنهم حادوا عن جادة الطريق، بعدما قدّموا مصالح تنظيماتهم على المصلحة العليا للقضية الرئيسية؛ ولم يعد يعني هؤلاء الرهط من زعامة تلك التنظيمات سوى الحصول على الإعانة الشهرية التي تقدمها لهم منظمة التحرير الفلسطينية، أو من بعض الدول إن لم يكونوا عضواً في المنظمة المذكورة؛ وبالتالي باتت تلك التنظيمات مجرد كمبارس يمثّل دوراً ثانوياً على المسرح السياسي الفلسطيني، لا قيمة البتة لها؛ بل وأكثر من ذلك اتبعت تلك التنظيمات سياسة النفاق والمداهنة فيما بينها؛ فهي لا تقبل بعضها البعض إلاَّ على مضض، ويكرهون بعضهم أكثر مما يبغضون عدوهم إسرائيل؛ لذا فقدوا دورهم كصفوة داخل الشارع الفلسطيني.
وأهل الصفوة الرابعة في المجتمع الفلسطيني، هم: فلسطينيو الشتات، فهم تقريباً فقدوا كل اتصال مع فلسطيني الداخل، بعدما وجدوا أن لا أحد يبحث عن عنوانيهم، ويتم تغيبهم قسراً عمَّا يدور في الشأن الفلسطيني، ويبدو أن ذلك الأمر هو منتهى مصيرهم؛ ليتم فيما بعد استيعابهم وتوطينهم في الدول التي يعيشون فيها. ومهما يكن من أمر؛ فإن هؤلاء الناس الذين هم في غالبيتهم بسطاء بساطة معظم البلدان التي يتواجدون فيها، وبعد أن أنهكتهم الهموم الحياتية وقسوة المعاش اليومي؛ باتوا بلا هوية تجمعهم، لا يعنيهم سوى لقمة العيش الصعبة إن وجدوها في بلدانٍ فقيرة. أما أثرياءهم؛ فمعظمهم أضحى كقارون بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، غير مكترثٍ بالقضية الفلسطينية، ولا بقومه وشعبه، وتجذّرت البرجوازية في صفوفهم، واعتبروا أنفسهم علية القوم، يتحدثون إليهم من أبراجٍ عاجيّة؛ وقلّما وجدنا فيهم من يساهم أو يتبرع لإخوانهم الفلسطينيين المتواجدين في الداخل أو الشتات؛ وقد نسي أنه إنما مُستخلف فيما يملك من مال.
وبناءً عليه؛ فإن أهل تلك الصفوة ازدادوا بُعداً عمَّا يدور حولهم من أحداثٍ تخص قضيتهم ومصير أهليهم في الداخل؛ فمنهم بسبب تغيبه قسراً عمَّا يدور في الشأن الفلسطيني؛ وإن كان ذلك لا يقيه من المسئولية؛ ومنهم بسبب تضخم ثروته؛ فلم يعد يلقِ بالاً لمِا يقاسيه قومه وشعبه؛ فالثروة أعمته وأفقدته حب الوطن والحنين للعودة إليها إن استطاع إليها سبيلاً.
وأخيراً أهل الصفوة الخامسة، هم: أهلونا في فلسطينالمحتلة عام 1948م، وهم على أية حال وضعهم صعب ومعقد جداً؛ فهم بين مفترقين، مفترق عروبتهم وفلسطينيتهم، ومفترق تأثرهم بالهيمنة اليهودية على دولة إسرائيل، فلا يستيطعون الفكاك من ذلك التأثير؛ نظراً لهيمنة العنصر اليهودي على الدولة؛ ولأنهم لم يحصلوا بعد على كامل حقوق المواطنة في تلك الدولة؛ لذا وعلى الرغم من إن بعضهم تمكن بعد صبرٍ ومثابرة من أن يكون عضواً في الكنيست؛ إلاَّ أنهم لا زالوا يناضلون للحصول على بقية حقوقهم. ومع ذلك؛ فإن دور أهلونا في الأراضي المحتلة عام 1948م، كبير ومهم وهامش حريتهم يسمح لهم بمساعدة إخوانهم في أراضي السلطة الفلسطينية إن أرادوا؛ ومع ذلك فإن بعض أعضاء العرب في الكنيست لا يتوانون عن تقديم يد العون السياسي لأشقائهم وقت الضرورة كما يفعل الطيبي وبركة وغيرهما.
وخلاصة الأمر؛ فإن أهلينا في تلك المنطقة لا زالوا بعيدين عن أن يكون لهم استقلالية ذاتية داخل المجتمع الإسرائيلي؛ وإن كان العامل الديمغرافي قد أضحى يلعب لصالحهم؛ مما سيشكل خطراً على يهودية الدولة؛ الأمر الذي باتت معه إسرائيل تستشعر الخطر القادم من جانبهم. ولن يكون لهؤلاء القوم مكانة على أراضيهم ما لم يتمَّ دعمهم من أشقاءهم الفلسطينيين، ومن إخوانهم العرب؛ ولكن مما يؤسف له أن الجميع قد أهملهم كليةً، لغرضٍ في نفس يعقوب.
** منسق برنامج ماجستير دراسات الشرق الأوسط جامعة الأزهر – غزة