في خضم هذه الأحداث والتطورات التي تشهدها الساحة السياسية المصرية بعد ثورة الشعب في الخامس والعشرين من يناير صارت "الحقيقة" تنافس "الحرية" في كونها غايةً يسعى الجميع لتحصيلها، وهدفًا عظيمًا من أهداف الثورة لابد من تحققه، بل أصبحت لغزًا حيَّر قطاعًا ليس بالقليل من المصريين، هذا على الرغم من كونها الثورة الأولى في العالم التي ارتكزت على الثورة المعلوماتية التي هي نتاج التطور التكنولوجي إلا أن عدم الشفافية ونقص المعلومات – بل وحجبها – وكثرة الشائعات ثم نفيها؛ كان هو سيد الموقف في ظل حكم المجلس العسكري المعيَّن من قِبل مبارك. فمصر كلها تسأل: متى يحاسب عمليًا مبارك على جرائمه في حق الشعب؟ مَن المسؤل عن تأخر ذلك؟ مَن من الشرطة هو القاتل لثوار يناير، ومَن منهم هو الشريف؟ ومتى يتم إصلاح الأجهزة الأمنية في مصر؟ مَن المسؤل عن قتل المتظاهريين في أحداث ماسبيرو وشارع محمد محمود وشارع رئاسة الوزراء؟ ومن هو المجرم المدبر لمذبحة بورسعيد؟ من وراء افتعال الأزمات الإقتصادية والانفلات الأمني؟ هل تم تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين؟ مَن يحميهم في مناصبهم؟ ولماذا؟ هل حقًا تَصْدُق على الإدارة الحالية لمصر مقولة: "لا يحمي الفاسدين إلا فاسد .. ولا يتستر على السارقين إلا لص" ؟ وأسئلة كثيرة جدًا كانت الإجابة عليها من المجلس العسكري أن الفاعل هو كيان مجهول يُسمى بعدة أسماء زادته غموضًا منها:"الطرف الثالث" "اللهو الخفي" "الأياد الخارجية" ..الخ تلك المسميات الناتجة عن عشق العسكر ل"نظرية المؤامرة" التي أصبحت هي المخرج من كل مسؤلية، وضيعت الحقيقة فانقسم الشعب على نفسه كلٌّ برأيه، وأهدرت العدالة فلم يُقتص من قاتل، وشجَّعت الفساد فكثرت الجرائم. وانعدمت الثقة فصار التخوين – لغة النظام البائد- أسهل جريمة يرمى بها أي معارض ... نعم كل هذا هو النتيجة الطبيعية لغياب – لا بل لتغييب – الحقيقة . فلماذا لا يُظهر العسكر هذا الطرف الذي يُحدث الدماء الفوضى؟ وهل هو موجود خارج دوائر السلطة الآن؟ وما مصلحة العسكر في التستر عليه أكثر من عام؟ هل المجلس متورط معه أم خائف منه؟ أم أنهما كيان واحد؟ لقد أجاب المشير على كل هذه التسؤلات في تصريحاته لوسائل الإعلام عقب مذبحة بورسعيد بادئًا باستهانته بالدماء المصرية قائلا: "دي أحداث ممكن تحصل في أي حتة في العالم!". ثم عقَّب معبرًا عن رضاه بما يحدث بل واعتبر أن مصر تسير وفق تخطيطاته مصرحًا بأن: "مصر ماشية في الاتجاه بتاعها زي ما احنا مخططين!". وختم هذه التصريحات المستفزة بدعوته لكل الشعب بالاشتراك في القتل والمذابح وكأنه يقود حرب أهلية أو يقرأ من خطابات القذافي لشعبه قائلا: "بس إحنا عاوزين الشعب كله يشترك في حاجات زي دي .. الشعب ميقعدش ..!! ما هو مين اللي عمل كده ماهو أفراد من الشعب المصري ..الشعب المصري ساكت عليهم ليه..؟!" أليس هذا التصريح يتضمن تحريضًا علنيًا على الفوضي والعنف؟! وللأسف قد سكتت جل وسائل الإعلام عن هذا التصريح الذي يعد جريمة طبقا لقانون العقوبات المصري. ثم قال مهينًا لمصر ولشعبها ودماء شبابها: "وبالنسبة للمتوفين .. هنشوف .. هنبحث مواقفهم وان شاء الله هنديهم التعويضات لأهاليهم!" وكأنه إقطاعي يعيش في عصور الظلام وسيدفع ثمن عبد تم قتله خطأً بدون أدني مسؤلية إنسانية أخلاقية أو قانونية. أما عن محاسبة أي من نظام مبارك فكانت قرارات المشير كعادتها حصنًا قويًا تحميهم من أيدي العدالة؛ فقال مجيبًا عن سؤال حول إقالة المحافظ أو مدير الأمن: "ده مش موضوع .. مش وقته دلوقتي .. ومحدش خد قرار بكده (مَن الذي يأخذ القرارات ؟) وكل حاجة هتجي نتيجة التحقيق". وطبعا مصر كلها تعرف أن تحقيقات "النائب العام" المعين من قبل المخلوع ولجان تقصى الحقائق التابعة للمجلس العسكري ترجع لنا دائمًا بخفي حنين خالية من كل حقيقة، مهدرة للعدالة في أكثر القضايا وخاصة الدماء، محبطة للأمال مزيدة للآلام، ولا تعترف بما يحدث على أرض الواقع!! وأظن أنه بقراءة الواقع وتفاصيل إدارة العسكر لمصر الثورة تصرخ الحقيقة قائلة بأن النظام لم يسقط، وأن على الثورة أن تستمر، وأن اللهو الخفي هو المجلس العسكري.