صدرت مؤخراً عن "دار الجديد"، بيروت، الترجمة العربية لكتاب المخرج الفرنسي روبير بريسون "مدونات حول السينماتوغراف". ويعد الكتاب ثمرة سنوات من الاشتغال والبحث والاهتمام في السينما منذ العام 1943 حيث أخرج روبير بريسون (مواليد 25 أيلول 1907، في منطقة يوي دوم، وسط فرنسا) فيلمه الروائي الأول "ملائكة الخطيئة" الذي كتب حواراته جان جيرودو. وفي سنة 1945، استلهم مقتطفاً من جاك القدري لدوني ديدرو وأخرج فيلم "سيدات غابة بولونيا" الذي كتب جان كوكتو حواراته ومن افلامه أيضاً "يوميات خوري الخريف" (1951) وفيودور دستويفسكي، "امرأة حنون" (1969)، و"ليالي حالم الأربع" (1971). كما صور روبير بريسون افلاماً عديدة بأسلوب سيعقد فيه ملامح مسرح الفقير لغروتونسكي ومنها: "مزار محكوم بالاعدام" (1956)، "النشال" (1959)، "محاكمة جان دارك" (1962)، "بلتازار مصادفة" (1966)، "موشيت" (1967)، "لانسيلو البحيرة" (1974)، "الشيطان ربما" (1976)، "المال" (1983). سنوات عديدة حقق فيها بريسون تواصله السمعي البصري في قسميه النظري والعلمي التقني والتجريبي. والكتاب في مدوناته يوظف نظرية التواصل وعناصرها في اللغة السينمائية أو اللعبة التواصلية في سياق رؤية اخراجية ومحمولات ودلالات ولغة واشكال من التواصل والعلاقات والرموز في كيفية صناعة الصورة وكيفية التعبير عنها وحدود لعبة التأويل والايحاء فيها او الايحاء بالمجاز والفراغ. أبعد من الأنشطة الكتابية النقدية في المجال السينمائي يتناول بريسون في مدوناته المكثفة والحادة وغير السردية النص السينمائي بمستويات شتى. على الطريقة الاسلوبية اليابانية. وتلتقي زاوية النظر هذه في تركيب غامض الانتماء يجمع اليه القصيدة والمسرح والموسيقى ومؤثرات شتى في بنية هندسية ذهنية تركز على دلالات هذه الاشياء وليست الاشياء نفسها. أي هذه العناصر الكثيفة في المادة السينمائية لكن في عديمها، وليس كثافتها في تجريب يفتح نقاشاً وآخر. يطرح روبير بريسون سيلاً من الاسئلة حول استخدام هذا الفن الذي ما زال جديداً الذي سماه الآخرون السينما، فيما هو يطلق عليه السينماتوغراف الصعب (السحر البدئي للاخوين لومير ومعنى شهرتها الحرفي النور). هل الاسئلة هي التي صنعت الافلام؟ أم الأفلام هي التي استنبطت الاسئلة؟ وما هو مجال استخدام الاسئلة؟ اداة التحريض والتعكير والبحث عن الفقرة او استنباط لغة جديدة. يصر بريسون على الاختلاف الجوهري بين المبدع السينماتوغرافي وبين المخرج الداير أكثر. ليس من سيطغى على ابداع مزيف بل رجل وليس الا رجلاً يحاول بشتى الوسائل. في مدوناته، يسجل بريسون اكتشافاته في التماعات مقتصدة، يلتقي فيها جوهر الاشياء، منحازاً الى "اللطيف" في الاشياء والصدق والطبيعة والاقتصاد في الظاهر وعناصر المبالغة والتضخيم. كأن السينما والكتاب من طبيعة واحدة والمكان في عريه وفراغه الساكن هو مكان التعبير وكالعلاقة بين اللوحة والفنان: روح وجسد لا يقلدان. لا يريد بريسون براهين كثيرة تقود الى الحقيقة باختصار شديد يقول الحقيقة لا تحتاج الى براهين كما القصيدة الشعرية لا تحتاج الى صوت أو مؤثرات تضخمها وتذهب بها الى نواح اخرى كما لا تحتاج القصيدة الى جسد يلبسها لباساً آخر. المعاناة القصوى عنده هي الجوهر في تعشق هذه الكلمات وحيائها، وهو الجوهر الذي اوصل بريسون الى قمة الابداع السينماتوغرافي. يقول بريسون: "الحقيقي لا يقلد، المزيف لا يحول" وفي نظره الفن هو الملاذ الوحيد لمواجهة مرارة العجز وهو أكبر من ذلك ويكشف الجزء الوحيد المرئي من الواقع، وجهه الظاهر. وبهذا المعنى بريسون يقترب من كبار الرسامين الانطباعيين ويذهب بكل شيء الى مدة من دون حدود، والى اللامتوقع، مثل الماء الذي يجري عفوياً على الارض ليأخذ لاحقاً شكله. تماماً السينمائي هو الذي لا يخرّج، هو يرمي الماء، ليأخذ ماء شكله ولونه. هكذا يعلم بريسون فن المفاجأة قريباً من فلسفة برغسون في التأمل والانخطاف، أو فلسفة رمي الشبكة لتعلق السمكة في لا مكان ما محدد سلفاً. يركز بريسون على اهمية التفاصيل والكشف البسيط عن مجمل الحواس، وكل شيء صغير لديه سره الالهي والحقيقة بالنهاية العمومية واهية جداً وهشة مثل لغة الجسد والاشكال ولغة الأصوات. في يومياته روبير بريسون هو شاعر وأديب وموسيقي ورسام ورومنطيقي وصوفي ميتافيزيقي في عشقه للجسد، للوجه، ولقدمين عاريتين تستريحان بثبات في مدى الأرض واحوالها واصواتها الباطنية. هنا تحت الارض التنهد والصمت والضوضاء والحواس في المدى الواسع وعلى ارض ضيقة جداً بالكاد تتسع لقدمي مخرج وفي مكان آخر "قوة العين النافذة" (جان ماري غوستاف لوكليزيو). كيف الحفاظ على هذا العري الكامل والكاشف والقوي والحساس في اللعبة السينمائية؟ وكيف يمكن تلمس المظاهر الاخرى غير الجاهزة لهذا التأثير السينماتوغرافي الكبير؟ في الكتاب يوميات وليس مدونات واسعة وتفصيلية ووصفية بالمعنى السردي، مجرد كلمات وندوب واشارات ووجع ولمعان في مذكرات مخرج متمرس يملك نظرات حنونة جداً ومبدعاً في شاعرية البساطة، ينتمي بوضوح الى عمق هذا الفن. ويحكي قراءاته من معطيات مختلفة الانتماءات وهو يختار له مساراً واضحاً وإنجازاً حين يغوص الى عمق الجوهر الوظيفي للفن السابع ويجعلنا نتحسس احساساً آخر في عملية احياء اللقطة واللحظة النهائية. كتاب صغير، ولكن يشكل مرجعاً مهماً للمهتمين بالثقافة السينمائية الواعية والفاعلة والنافذة الى عمق اللعبة وبدون حدود تأويلية، على ما يعتبره لوكليزيو السفح الآخر للابداع والطاقة الحية للمد المتواصل للعودة من يوميات خوري الريف الى لانسلو ومن جان دارك الى المال. شذرات معبّرة لرجل صار ايقونة ولاستاذ تدرس افلامه في المعاهد والجامعات وأساليبه في ادارة الممثلين واستعمال الكاميرا والاضاءة والموسيقى في كل المعاهد. السينمائي الفرنسي لكلماته وقع التأثير الخاص، والتجريبي الريادي الذي استفاد منه كبار المخرجين العالميين يدون كلمات وجملاً وأفكاراً تصير هي الكاميرا واللغة. قام بالترجمة الى العربية محمود امهز استاذ ورئيس قسم تاريخ الفن في الجامعة اللبنانية، وفادي اسطفان استاذ تاريخ الفن والاثار والميتولوجيا في الجامعة اللبنانية ايضاً في جهد ثنائي متناغم ومتماسك لغوياً وبمرونة فائقة.