عاشت سوريا سنين تحت حكم بشار الأسد، وكانت طوال تلك الفترة وخصوصاً في مرحلة ما بعد "الربيع العربي" أرضاً للنفوذ الروسي والإيراني معاً. كانت الولاياتالمتحدة موجودة من خلال تحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمال شرق البلاد، وكانت إسرائيل موجودة في هضبة الجولان المحتلة، ولكن النفوذ السياسي الأعلى كان لإيرانوروسيا دون سواهما . ولا عجب في ذلك ، فلولا طهران وموسكو لكانت تداعيات ما يسمى بالربيع العربي قد أطاحت بحكم الأسد كما أطاحت بسواه من الحكام في أكثر من بلد عربي . ولكن مع سقوط نظام الأسد المفاجئ وغير المفهوم حتى الآن ، بدت معادلة النفوذ القديمة وكأنها تتبدل وتتغير ، وبدا أن دولاً أخرى تأتي لتحل في محل إيران التي كان عليها أن تغادر ، وكذلك روسيا التي لا تزال تتشبث بعدم المغادرة . سقط بشار في الثامن من ديسمبر ، وجاء في مكانه أحمد الشرع الذي اشتهر من قبل بأنه أبو محمد الجولاني ، ومنذ اللحظة الأولى ذهب يخطب في المسجد الأموي في العاصمة دمشق ، وكان مما قاله بوضوح أن من بين خطايا النظام السابق أنه جعل من سوريا مرتعاً للنفوذ الإيراني .. وكانت هذه العبارة إيذاناً ببدء عصر سياسي جديد في عاصمة الأمويين ، وإشارة الى أن حكومة المرشد في ايران لا مكان لها في هذا العصر الجديد ! وكانت تركيا هي التي تقدمت لتحل محل ايران ، ولم يكن هذا سراً وقتها ولا الآن ، فلا الطرف السوري يخفي العلاقة الخاصة التي تربطه بتركيا ، ولا الطرف التركي يخفي هو الآخر علاقته الخاصة مع الحكومة الجديدة في دمشق . ولم يكن غريباً والحال هكذا ، أن تكون أنقرة هي العاصمة صاحبة نصيب الأسد في زيارات الشرع الخارجية .. فلقد زارها ثلاث مرات رغم أنه بالكاد قضى شهوراً معدودة على أصابع اليد الواحدة في قصر الشعب هناك . وكانت إسرائيل من ناحيتها تحاول أن يكون لها موطئ قدم في الأراضي السورية ، ولذلك راحت تعربد كعادتها في محافظات الجنوب الثلاث " القنيطرة ، ودرعا ، والسويداء " فضلاً عن وجودها في هضبة الجولان المحتلة . ولم تشأ الولاياتالمتحدة أن تقف متفرجة ، وهي ترى أن تركيا صاحبة نفوذ مستقر في البلاد ، وإسرائيل صاحبة نفوذ متزايد ولكنه لا يرقى الى مستوى النفوذ التركي ، ودول الخليج صاحبة نفوذ متقدم بحكم ما تبذله للحكومة الجديدة من مساعدات ، وروسيا صاحبة نفوذ متراجع وإن كانت تحاول أن تبقيه عند حدوده الدنيا . ولذلك أرسلت إدارة ترمب مبعوثاً خاصاً لها إلى دمشق ، واختارت توماس براك لهذه المهمة ، وإذا عرفنا أنه كان سفيراً لبلاده في أنقرة ، فهذا معناه أن واشنطون ترسله ولسان حالها يقول أنها تريد أن تداوي الأوضاع السورية الجديدة بالتي كانت هي الداءُ .. أو شيء بهذا المعنى .. وإلا ما جاءت بسفيرها في تركيا بالذات .