مثلما يتبادل الناس في الشوارع الأحاديث عن القفزات المتتالية في أسعار كافة المنتجات يتبادل المثقفون مؤخرا أخبار الجنون الذي أصاب سوق الكتاب في مصر، بالطبع لا أحد غيرهم يهتم، لن تجد مثلا متابعات في الجرائد أو رصدا للغضب بين الناس بسبب غلاء أسعار الكتب، أو اقتراحات عن كيفية السيطرة علي هذا الانفلات، والمؤكد أننا لن نسمع عن مداهمات علي مخازن كتب احتكرها أصحابها ومنعوا بيعها ليحققوا منها أعلي ربح ممكن. الكتاب واحد من السلع التي يمكن للتاجر أن يتحكم في سعرها من غير سؤال ولا رقابة من جهة ما، كل الكتب تقريبا زادت أسعارها بمعدل الضعف علي الأقل، وخاصة المترجمة والمطبوعة خارج البلاد، ومن يملك دولارات للاستيراد يفرض السعر الذي يوده، ربما يكون الوحيد الذي يملك ما تريد، والكتاب بالنسبة للمثقف مثل السكر للمواطن العادي.. تشبيه مبتذل لكنه يفي بالغرض ويناسب تماما المرحلة التي نمر بها. في واحدة من المكتبات الحقيقية القليلة في وسط البلد كنت أتفحص الكتب محاولا تقدير الأسعار الجديدة، بينما كان زبون آخر يعترض والبائع يرد بما اتفق عليه كل التجار: زيادة الدولار وضرورة رفع أسعار القديم ليتمكن من الاستمرار، خلاف ذلك يعني الخسارة وربما الخروج من السوق، من ناحيتي تفهمت وجهة نظر البائع، لكن عندما أخبرني أن ثمن الكتاب الذي أريد يزيد عما قدرت بثلاثة أضعاف تركته وأنا أفكر في احتمالات الخروج مع الزبون الآخر لتنظيم مظاهرة من طلعت حرب وصولا لميدان التحرير نطالب فيها الدولة بالتدخل. في ذلك اليوم كنت محظوظا بالحصول علي النسخة الأخيرة من "مائة عام من العزلة، إصدار سلسلة ال 100 كتاب، السعر لم يصل لعشرة جنيهات، البائع قال إنه لا يفهم إن كانت سلعة مثل هذه عليها مثل هذا الطلب المتزايد فلماذا لا تطبع الهيئة عددا أكبر من النسخ؟ قلت له إن الفترة المقبلة بالتأكيد ستشهد مطالبات مثل هذه لوزارة الثقافة، لكنها غالبا لن تفعل شيئا، بل علي الأغلب ستكون الوزارة أول المنسحبين من هذا السوق، لديها عقلية خاسر، والدعم في طريقه للزوال، والخطاب المنمق حول دور الثقافة في المجتمع لن يكون مفيدا في مواجهة احتياجات أساسية، وميزانية كارثية.. هذا وقت التضحيات، ووقت الإجابة عن أسئلة صعبة: هل للثقافة بالفعل دور ما؟ ما الذي سيحدث علي أي حال إن استيقظ الشعب المصري فلم يجد كتبا في المكتبات، طبعا ستدور نقاشات مطولة ومقالات تتساءل كيف لقوة مصر الناعمة أن تنتهي؟ لكن ذلك لن يكون له أثر، موضوع يبقي لبعض الوقت، ثم يمل الناس من متابعته لينتهي إلي مجموعة من المثقفين والفنانين يبحثون عن طرق للحصول علي كتبهم. أحد الباعة في مكتبة مؤسسة حكومية قال إن بعض المطابع اضطرت إلي دفع الشرط الجزائي لوزارة التربية والتعليم والذي يصل أحيانا إلي 750 ألف جنيه لفسخ عقودها الموقعة معها لطباعة الكتب التعليمية، من فعلوا ذلك ضربتهم الأسعار الجنونية للورق والأحبار، ووجدوا أن مبلغ الشرط الجزائي أهون من الخسارة الرهيبة التي ستلحق بهم إن نفذوا الطلبيات بأسعار التعاقد. الخسارة كما أكد البائع، قد تصل في الصفقات المتوسطة لما يقرب من مليونين، منهيا ذلك بالتأكيد علي أن الحال لو استمر هكذا، ولا توجد أي مؤشرات علي أنه سيتوقف، فإننا سنشهد نهاية عهد الكتاب المدرسي. تأكيدا علي كلامه بعدها بأيام قرأت تصريحا لوزير التعليم يقول فيها إنه مستعد لسماع كل الاقتراحات لبدائل الكتاب المدرسي.. يظل معرض القاهرة الدولي للكتاب الأمل الوحيد الباقي، هذا بالطبع إن استمعت الدولة مثلا لما كتبه نبيل عبد الفتاح تحت عنوان "معرض القاهرة الدولي للكتاب في خطر!": " معرض القاهرة الدولي للكتاب الأكبر في المنطقة- بدور النشر المشاركة وزواره وأنشطته - يواجه في دورته القادمة مشكلة كبري تؤثر علي مكانته ودوره بعد تعويم الجنيه، وتأثير ذلك علي القدرة الشرائية للقراء المصريين في اقتناء الكتب، وذلك لأن الناشرين العرب والأجانب يحددون أسعار كتبهم بناءً علي سعر صرف الجنيه المصري إزاء الدولار، بالإضافة إلي الرسوم المقررة لحجز أجنحتهم في المعرض، وهو أمرُ دفع عديدين منهم إلي عدم إبداء الرغبة في المشاركة هذا العام بسبب ارتفاع الرسوم، وهو الأمر الذي يحاول من خلاله بعض الناشرين أن يطرحوا أنفسهم بديلاً عن الهيئة العامة للكتاب، في إقامة المعرض سنوياً في المستقبل." عبد الفتاح أنهي مقاله بمناشدة رئيس الوزراء: " نناشد السيد رئيس الوزراء بسرعة التحرك لإنقاذ معرض القاهرة الدولي للكتاب واتخاذ ما يراه من إجراءات لإعفاء الهيئة العامة للكتاب من رسوم إيجار المعرض، وبعض التيسيرات الأخري من أجل استمرارية المعرض كإحد علامات دورنا الثقافي في العالم العربي." أتمني بالطبع أن تستمع الدولة لما كتبه نبيل عبد الفتاح، وللأصوات التي بدأت في الانتباه لهذه الأزمة المقبلة، لا أرغب أن تفكر الدولة في القوة الناعمة كمبرر، أو دور الثقافة في المجتمع، لا أظن أن أمورا مثل هذه لها قيمة لديها الآن، لكن حتي علي الأقل نتمكن من كتابة الأرقام التهليلية المصاحبة للمعرض.. ملايين الزائرين والمئات من دور النشر، وحتي يجد ضيف شرف المعرض جمهورا ما، ما جدوي أن تأتي بضيف شرف وتتركه في تلك البقعة الباردة وحيداً! الأكيد أن الكتاب لن يختفي، لكنه سيتحول، وذلك بدأ بالفعل، ثقافة ال"بي دي إف" بدأت تكتسب شعبية أكبر، لست في حاجة إلي اتصال بالإنترنت ليكون لديك مكتبة محترمة، في كل المجالات، دعك من كلام الجيل القديم صاحب نظرية ملمس الورق ورائحته، هذا المنطق يسقط أمام التكلفة، زيرو تقريبا السعر الذي تدفعه للبي دي إف، علاوة علي سحر أن تحتفظ بمكتبتك كاملة في جيبك.. المشكلة الوحيدة أننا سنضطر للانتظار للحصول علي الحديث، حتي يتمكن أحدهم من قرصنة هذا الجديد ورفعه علي الإنترنت، وبعد وقت عندما تتزايد الأعباء علي الناشرين ويختفي الطلب علي سلعتهم لن نجد إلا الكتب القديمة فقط. غير أنه مثلما يقولون فإنه في كل مأساة هناك جانبها الإيجابي، مثلا ستختفي كل الكتب غير الجيدة، لن يبقي إلا الأكثر مبيعا، أو ما يقدم شيئا مختلفا ويجد ناشرا مازال مؤمنا بما يفعل، لن يجد كل من خطرت له فكرة أن يكون شاعرا أو روائيا أو باحثا في التاريخ والتراث، مجالا إلا إن كان لديه ما يستحق المغامرة، لن تدور المطابع من جديد لطباعة مقالات الكتاب المجمعة، ولا الكتب الصفراء، ربما تنتهي إلي الأبد جريمة التضحية بالأشجار لصالح كلمات لا يهتم بها إلا المؤلف وأصدقاؤه، ربما ينتهي إلي الأبد هذا الادعاء بالثقافة، لا كتب لنقيم حولها ندوات لا نعرف لماذا نقيمها أصلا، إلا لأنه هكذا جرت العادة.