الإمام محمد عبده أحد أهم الشخصيات الفكرية والدينية التي ظهرت في مصر الحديثة، فهو من أبرز من ساهموا في النهضة الفكرية ومحاولة تخليص الدين من الفهم المغلوط والتشدد الذي طاله في قرون الانحطاط، وفتح الإمام الباب لمن جاء بعده لكي يحملوا مشعل التنوير من بعده. "دين ودنيا" يستعرض مجموعة من الفتاوي التي أصدرها الإمام عندما تولي منصب مفتي الديار المصرية، التي برز من خلالها أسلوبه الجزل ورغبته في الاقتصاد في الفتوي لتكون ميسورة مفهومة لكل الأذهان. نفقة علاج الولد السؤال: هل الوالد مكلف شرعا أو قانونا بنفقات علاج ولده أم لا؟ الفتوي: قالوا بوجوب النفقة بأنواعها علي الحر لطفله الفقير الحر، وعرفوه بأنه الولد الذي يسقط من بطن أمه إلي أن يحتلم ولم يذكروا هنا أجرة الطبيب وثمن الأدوية، وإنما ذكروا عدم الوجوب بالنسبة للزوجة وصرحوا بأن الأب إذا كان مريضًا أو به زمانة يحتاج بها إلي الخدمة فعلي ابنه خادمه وكذلك الابن، ومرادهم من كون الطفل فقيرًا أنه لم يبلغ حد الكسب، فإن بلغه كان للأب أن يؤجره أو يدفعه في حرفة ليتكسب وينفق عليه من كسبه إن كان ذكرًا، وإذا كان الطفل غنيا بأن كان صاحب عقار ونحوه فالأب يبيع ذلك وينفق عليه لأنه غني بذلك، هذا ما قالوه في جانب الطفل. أما ما قالوه في جانب الولد الكبير فهو وجوب النفقة المذكورة للولد الكبير العاجز عن الكسب بأن كان زمنا أو من أبناء الكرام أو لا يستأجره الناس أو طالب علم لا يتفرغ للكسب، فإنه في هذه الأحوال عاجز تجب نفقته علي الأب علي ما في القنية والمنح، وعلي الأب أن ينفق علي ابنه في المرض وقاية من غائلة المرض... والله أعلم. زواج الأطفال.. فاسد السؤال:أب فاسد زوج بنته الصغيرة لطفل لم يبلغ, وقَبِل النكاح له أبوه، فهل من حق الفتاة إذا بلغت أن تعلن فساد العقد؟ الفتوي:سوء اختيار الأب ومجانته تجعلانه بمنزلة غير الأب، فإن سوء الاختيار والمجانة مما يضعف الرأي، ويجوز للزوج أو الزوجة أن يختار الفسخ عند البلوغ، وعللوا ذلك بأن الشفقة وإن توفرت فالرأي غير كامل، فضعف الرأي فيها سوغ جواز الفسخ للصغيرة إذا بلغت. والوالد الماجن سيئ الاختيار قد يفقد الشفقة مع الرأي خصوصًا من أهل زماننا الذين فشا فيهم فساد الرأي وغلب علي وجدانهم، حتي إن الرجل الذي لا دين له لا يبالي بما يكون في شأن بنته في مستقبل قريب فضلا عن بعيد، وليس من الفقه أن يسوي بين كامل الرأي حسن الاختيار وبين الماجن سيئ الاختيار في لزوم العقد... فللبنت بعد أن اختارت فسخ النكاح أن ترفع الأمر إلي القاضي ليقضي به متي صح عنده جميع ما ذكر في السؤال. والله أعلم. لبس البرنيطة السؤال: يوجد أفراد في بلاد الترنسفال تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعودة الفوائد عليهم هل يجوز ذلك؟ الفتوي: أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرًا. وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمس أو دفع مكروه، أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك لزوال معني التشبه بالمرة. حضانة الطفل السؤال: رجل أراد أخذ ابنته من حضانة جدتها لأمها لكن الجدة رفضت ما رأي الشرع في ذلك؟ الفتوي: الذي تقتضيه القواعد الفقهية في كفالة الصغار وتربيتهم أن يراعي فيمن يقوم عليهم من الأقارب القدرة علي حفظ أبدانهم وصيانة عقائدهم وآدابهم إذا عقلوا فقد صرحوا في الحضانة إذا فقدت الأم أو لم تصلح للقيام بشئون صبيتها تنتقل للعصبة الأقرب فالأقرب، واستثنوا من العصبة الفاسق والماجن، وكذلك قالوا فيمن مضي عليه سن الحضانة، ولكن لم يبلغ من العقل والقدرة علي صون نفسه ما يسمح بتركه يسكن حيث يحب أن للأولياء حق ضمه، وشرطوا في ذلك ألا يكون الولي مفسدا يخشي منه علي من يريد ضمه، وبالجملة فإن الشريعة تطلب دائما صون الأبدان والأرواح فإن خشي الشر والفساد علي بدن أو نفس سقط حق من يخشي منه ذلك في طلب ضم الصبي، وعلي ذلك فمتي أثبتت الجدة أن الأب ليس أهلا لضم البنت إليه كان للقاضي أن يضعها عند من يتمكن من صيانتها، فإذا كانت جدتها قادرة علي ذلك ساغ للقاضي أن يبقيها عندها. والله أعلم. إحياء الأرض.. تمليك السؤال: رجل أحيا أرضًا مواتًا في إصلاحها كثيرا واستمرت تحت يده ست عشرة سنة، ثم أرادت الحكومة أن تجري صورة المبايعة لواضع اليد لإثبات التملك رسميًا، فما التصرف؟ الفتوي: حيث إن إحياء الموات يعطي حق الملكية لمحييه، خصوصًا وقد وضع المحيي يده علي الأرض التي أحياها مدة ست عشرة سنة، وهي مدة يسقط بها حق المطالبة، فالأرض كانت بذلك ملكًا صريحًا لمن أحياها، ولم يكن للحكومة حق البيع، فالبيع الصادر منها قد صدر علي غير ملك لها، فهو صورة لا حقيقة لها. وواضع اليد علي الأرض مالك لها قبل البيع بسبب الإحياء بوضع اليد تلك المدة، فتلك الصورة التي عبر عنها ببيع لا أثر لها في إكساب حق الشفعة، وليس لأحد أن يطالب واضع اليد بحق الشفعة بوجه من الوجوه. والله أعلم. العصمة في يد الزوجة السؤال: هل يجوز أن تقول زوجة لزوجها أنت طالق علما بأن عصمتها بيدها؟ الفتوي: مقتضي ما وجد في وثيقة الزواج من تمليك الزوج زوجته عصمتها صحيح، وقد شرطت الزوجة أن يكون لها الطلاق متي شاءت فلا تملك الطلاق إلا مرة واحدة، لأن الشرط يقع بمرة واحدة ولا يتكرر إلا إذا كان بلفظ "كلما"، لأنها لعموم الأفعال أما قولها له طلقتك فلا يقع به الطلاق لأن محل الطلاق هو الزوجة لا الزوج، وحيث لم يقع طلاق فهي باقية علي شرطها ولا حيلة في إبطاله بوجه شرعي. والله أعلم. الأم تزوج بناتها السؤال: بنات قاصرات مشمولات بوصاية أمهن فهل لها ولاية عقد زواج إحداهن، مع وجود أخ لهن ذي سمعة سيئة؟ الفتوي: صرحوا بأن الولي في النكاح هو البالغ العاقل الوارث ولو فاسقا علي المذهب، ما لم يكن متهتكا أو سيئ الاختيار فسقا أو مجانة... فأما سيئ الاختيار فتزويجه من غير كفء أو بنقص مهر باطل إجماعًا. وأما الفاسق المتهتك غير سيء الاختيار إذا زوج من غير كفء أو بنقص مهر فلا ينفذ تزويجه. كذا قال علماؤنا ومنه يعلم أنه متي كان سوء سمعة الأخ العاصب المذكور في السؤال بتهتكه أو سوء اختياره فسقًا أو مجانة لا يجوز له أن يزوج واحدة من أخواته البنات المذكورات. وحيث إن الولي في النكاح العصبة علي ترتيب الإرث، فإن لم يوجد عصبة فالولاية للأم وليس لهذا الأخ العاصب التزويج كما ذكر، ولم يوجد غيره من العصبة المقدم علي الأم فيكون للأم ولاية تزويج بنتها القاصر من كفء بمهر المثل. والله أعلم. طوفان نوح السؤال: ظهر بعض الطلبة ديدنهم البحث في العلوم الرياضية وقد قالوا إن الطوفان لم يكن عامًا لأنحاء الأرض؟ الفتوي: أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع علي عموم الطوفان ولا علي عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث علي فرض صحة سنده فهو أحاد ولا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين، أما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا علي معتقد ديني، أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض... أما أهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية فعلي أن الطوفان كان عامًا لكل الأرض... ويزعم أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامًا... غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامًا.