بعد ما يقرب من أربع عشرة رواية وست مجموعات قصصية، فضلًا عن عدد آخر من الكتب المتنوعة، يُلقي بنا إبراهيم عبد المجيد -في كتابه المهمّ "ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2015- في فضاء كتابة مغوية وإشكالية في آن. يكمن سرّ غوايتها في جاذبيتها السردية التي لا هي بالرواية ولا بالقصص القصيرة، ولا حتي بالسرد السير-ذاتي المباشر، بل هي كتابة بين هذا وذاك، استطاع من خلالها المؤلف إعادة النظر في مشروعه السردي الممتدّ منذ حقبة السبعينيات الباكرة إلي الآن. ولعلّ جزءا من قيمة الكتاب تعود إلي قدرة الكاتب علي موضعة كتابه في سياقه المفاهيمي والنّوعي، حيث أشار -في مقدمة الكتاب، وتحت عنوان "المعني الذي أريده"- إلي أن ما يقصده ب "ما وراء الكتابة" هو الأسباب والدوافع والمبرّرات التي دفعته إلي كتابة هذه الرواية أو تلك القصة القصيرة في وقتها، مستدعيا إياها في سياق عملية إبداعية تأملية استبطانية، منذ روايته الأولي "في الصيف السابع والستين"، مرورا بسرديّاته الكبري اللاحقة، في رحلة سردية ممتدة تقارب الأربعين عاما من الكتابة وتجريب أساليب القصّ. وعلي الرغم من تقاطع سردية إبراهيم عبد المجيد مع بعض كتّاب جيل السبعينيات الذي ينتمي إليه، مثل محمود الورداني وسعيد الكفراوي ويوسف أبو رية،.. وغيرهم، في إحالاتهم المتكرّرة إلي زمن رجعي مرتبط بثورة الطلاب عام 1977، أو في تجاوزهم مقولات السرديّات الكبري التي ترسّخت مع أغلب كتّاب الستّينيات، فإنه قد استطاع أن يحفر لنفسه مسارا سرديا خاصا به، ارتبط فيه بعالم مدينة "الإسكندرية" تحديدا. ثمة تحولات مفصلية في كتابة إبراهيم عبد المجيد؛ أقصد إلي تلك التحولات الجمالية والثقافية التي ارتبطت لديه بزمكانات "البحر" و"المدينة الساحلية" و"الاغتراب"، حيث تعاملت سروده الطويلة والقصيرة مع هذه الزمكانات بوصفها مفاهيم أو مقولات ثقافية، اتصلت بعالم بحري يجمع بين الأنا والآخر، الوطن والمنفي، الاغتراب والهوية الجوّالة، فكانت المرجعية الثقافية للكاتب والمكتوب معا ممثّلة في شوارع الإسكندرية وشواطئها وميادينها. في ظنّي، تكمن خصوصية هذا الكتاب -الجديد في استراتيجياته النوعية Genre، والتي يتطابق فيها الراوي والمؤلف المضمر والمؤلف الحقيقي في نسيج قصصي واحد- في فضاء كتابة مغوية وآسرة في آن؛ أقصد إلي كتابة تتحرك في حدود المسافة العريضة بين التخييلي الخالص والسير-ذاتي الخالصة، ومن ثم إعادة تخييل السيرة الذاتية. وهنا، يصبح استدعاء تعريف فيليب لوجون عن فن السيرة الذاتية بوصفها "سردا استرجاعيًا، أو استعاديًا، نثريًا يجريه شخص واقعي عن وجوده الخاص" لا محلّ له من سياق نص سردي، ذاتي، عصيّ علي التصنيف؛ لأنه أقرب إلي الميتا-سرد، الذي تصبح فيه الكتابة سيرة ذاتية لذاتها؛ أي سيرة لفعل الكتابة، لا الكاتب. ولذا، يستدعي "ماوراء الكتابة" -من حيث التصنيف النوعي- بعض النماذج العربية والعالمية المحدودة الانتشار، مثل "الكاتب والمنفي" لعبد الرحمن منيف، و "الكاتب وواقعه" لماريو بارجاس يوسا، و"6 نزهات في غابة السرد" لأمبرتو إيكو، و"فن الرواية" لميلان كونديرا، و" نزوة القصّ المباركة" لجابرييل جارثيا ماركيز، .. وغيرها. هكذا، يقسم المؤلف كتابه إلي أربعة أقسام؛ يضمّ أولها سردا عن رواياته الأربع الأوَل ("المسافات"، "الصيّاد واليمام"، "ليلة العشق والدم"، "بيت الياسمين"). أما القسم الثاني، فيخصّصه للحديث عن ثلاثية الإسكندرية ("لا أحد ينام في الإسكندرية"، "طيور العنبر"، "الإسكندرية في غيمة")، وهي الثلاثية التي أحدثت نقلة نوعية في وضعية المؤلف بين الكتّاب المصريين والعرب. أما الجزء الذي استهلّ به هذا الفصل تحت عنوان "الكتابة عن الإسكندرية" فهو فصل نادر استطاع فيه المؤلف أن يقدّم تمثيلات مدينة الإسكندرية كما لم يتم تقديمها من قبل في تاريخ مرويّات المدينة-الثغر، رغم انطوائه علي حس شاعري شجيّ. أما القسم الثالث فيتناول فيه روايات ("ما وراء برج العذراء"، "عتبات البهجة"، "في كل أسبوع يوم جمعة"). ويبقي القسم الرابع والأخير الذي يخصّصه للحديث عن القصص القصيرة. أخيرا، وجنبا إلي جنب إدوار الخراط، بالطبع، يمكن القول إن إبراهيم عبد المجيد هو أحد رواة مدينة الإسكندرية الكبار الذين لن يُسقطهم التاريخ الأدبي من ذاكرته.