أن تصل إلي أعلي درجات الوعي، أن تتدثر بالحكمة، فهذا معناه أن الثمن المدفوع لم يكن هيناً. نحن جميعاً ضحايا هوياتنا العقائدية والعرقية والثقافية، وما لم ننفتح قلباً وعقلاً علي الأخري المغايرة، ما لم ننتبه إلي أن الانغماس فيها يسرق أعمارنا وأرواحنا، سنستحيل إما جلادين أو ضحايا، وأحياناً الاثنين معاً. رغم الآية القرآنية شديدة الوضوح: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" التي تتحدث عن حكمة الاختلاف، وأن الأخلاق هو التدين الحقيقي، وان الله وحده العليم بالسرائر، والآية الأخري التي لا تدع مجالاً للشك: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" التي تتحدث عن الحرية المطلقة للفرد في اعتناق دين أو حتي التخلي عنه، إلا أنه باسم الدين فُعِلت الأفاعيل وارتُكِبَت المجازر وحُرِق الأخضر واليابس. استغلت الامبراطورية العثمانية الأكراد المسلمين في عمليات الإبادة الجماعية للأرمن المسيحيين، وفي القرن السابع عشر، ذبح الكاثوليك البروتستانت، والآن يذبح الدواعش أي مخالف لهم حتي لو كان سنياً، وكذلك يري الأرثوذكسي أن الكثلكة مذهب هرطوقي. "المذاهب اختراع الإنسان ليسقي نبتة الكراهية"، "الكراهية دين لا يجتمع بدين أنزله الله، وهي مذهب من لا يفهم حقيقة الرب وغايته من وجود الإنسان"، "الكون كله قائم علي الاختلاف، ولا يجمعه سوي الحب"، هذه العبارات غيض من فيض مما ورد في رواية "نواقيس روما" الصادرة عن دار الساقي عام 2016 للروائي والمترجم والباحث الكردي السوري (جان دوست) الذي صدرت له روايات: "ثلاث خطوات ومشنقة"، "ميرنامة"، والحائز علي جائزة القصة القصيرة في سوريا عام 1993 عن "حلم محترق"، وجائزة دمشق للفكر والإبداع عن مجموعة "رماد النجوم" عام 2013. اللغة شاعرية، وهذا ليس بغريب، فالروائي شاعر حصل علي جائزة الشعر من رابطة الكتاب والمثقفين الكرد السوريين في عام 2012. لغة الرواية هادئة، رصينة، تتناسب مع عمر الراوي، الرجل السبعيني "عشيق" الذي يروي للناسخ الشاب "يونس" سيرته الذاتية في رحلة اغتراب امتدت لستة وخمسين عاماً من حياته بدأت حينما اتجه إلي روما عام 1708. قصة الرجل تُغَيِّر للناسخ خطته المستقبلية، فتجعله بعد أن كان قد قرر العودة إلي موطنه الأصلي، يبقي إلي جوار الراوي، ومع حبيبته الخادمة "زينب" التي قرر ألا يخذلها ويرحل كما فعل "عشيق" قديماً مع "إستر" حبيبته اليهودية. ليس هناك عقدة في الرواية ولا كثرة أحداث، لكننا هنا أمام فن الحكي، حيث الحكمة تسكن اللغة، فتجعل عملية القراءة ممتعة. الرواية دعوة للحب والتسامح، تنتصر لا للهوية الواحدة، ولكن المتعددة، لا التي يُقتَل ويُدَمَر باسمها، لكن التي تبني وتُنبِتُ أزهاراً، وهي الجزء الثاني لرواية "عشيق المترجم"، تحكي عن "محمد عشيق الدين"، الفتي الإنطاكي الذي يدفعه أبوه دفعاً للذهاب إلي إيطاليا ليتعلم اللغة الإيطالية واللاتينية ويصبح مترجماً، لكنه في خضم ضعفه وضياعه في الغربة وتآكل روحه، يلتقطه قس، يقنعه باعتناق المسيحية، وبالفعل يعتنقها ويصبح اسمه يوحنا، ويقطع علاقته تماماً ببلده وأهله وحبيبته، ليستقر في روما ويرتبط بفتاة إيطالية لا ينجب منها، يترك الترجمة وتنحرف حياته تماماً عن مسارها المأمول، فيصبح تاجراً للخمور، ويضاجع فتيات الهوي، وفجأة يجد أن العمر قد ضاع منه كالهباء المنثور، فيعكف علي ترجمة أمهات الكتب، ويقرر العودة إلي الديار، لكن بعد رحيل الأبوين، وتغير الأماكن، ولا يتبقي من حبيبته سوي عجوز هرمة. تناقش الرواية قضية الاغتراب والحنين إلي البلد الأم، إنها القضية التي تشغل الكاتب بشكل كبير والتي أثارها قبلاً في قصة "حفنة تراب"، وكذلك فكرة الاغتراب في الوطن ذاته كما في روايته الجميلة "مهاباد"، الوطن المغدور من الغرب وأبنائه علي السواء، ويرجع ذلك أولاً لكونه كردياً أغتُصِبت أراضيه وتصارعت عليها إمبراطوريات عظمي، وثانياً لكونه مغترباً، فجدير بالذكر أن الروائي المولود عام 1965 في كوباني التابعة لمحافظة حلب، هاجر إلي ألمانيا منذ عام 2000. في "نواقيس روما"، نجد أن عشيق الذي حينما وصل إلي روما أزعجه كثيراً شكل الصلبان فوق الكنائس، وصوت نواقيسها، "نعم أكرهها، أكره هذه النواقيس وهذه الصلبان" لكنه سرعان ما اعتاد عليها، ليحل مكان القلق والرهبة والغثيان، استحسان وتفاؤل وسعادة. علي الرغم من أن الرواية تناقش قضية إيمانية، ويظهر فيها الدين كعنصر أساسي، إلا أننا لم نجد الروائي ينتصر لدين بعينه، أو منتقداً لآخر، بل إننا نجد أن عشيق المسلم أحب فتاة يهودية، ثم أصبح مسيحياً وتزوج بمسيحية، ليعود في النهاية إلي دينه، ليس رفضاً أو لفظاً للمسيحية، بل تعايشاً مع الدينين اللذين رسخا في قلبه. "أنا الذي تمازجت في جسده روح محمد عشيق ويوحنا الإنطاكي. صار قلبي يتسع للهلال والصليب معاً. صار يُسمَعُ فيه بنفس الدرجة من الرهبة والجلال قرع النواقيس وصدي التكبيرات. لم يعد قلبي يعرف الكراهية". هذا ما آل إليه عشيق أخيراً، بلوغ الحكمة ، بعد أن دفع الغربة ثمناً باهظاً. تُظهِر لنا الرواية أن الكراهية بين الناس لا تنشأ فقط بسبب اختلافهم في الدين، ولكنها تمتد لاختلافهم في مذاهب الدين الواحد! فنرتطم بعبد الله السروجي المسيحي الكاره لعشيق المسلم، "حين عرف أني مسلم انتفض كمن رأي سبعاً" ثم يستطرد عشيق، لنجد أنه هو شخصياً لا يستسغ كمسلم وجوده في بلد مسيحي، فيقول: "هذه بلاد صلبان لا ينبغي لمسلم أن يعيش فيها"، أيضاً نجد أن جرجس المسيحي الأرثوذكسي يري أن الكثلكة التي عليها عبد الله السروجي مذهب هرطوقي. لكن كان القس لوسيانو هو صوت الحكمة التي ارتدي ثوبها عشيق لاحقاً، فيقول القس لعشيق: "كم من قرية كانت آمنة مطمئنة لا تعرف إحَن المذاهب ولا عداوات الملل ولا ضغائن النِحَل ولا حزازات الطوائف حتي جاء بعض من يدعون أنهم نواب الرب وسدنة حقيقته والمبشرون بكلمته فضربوا هذا بذاك واشعلوا نيران الفتنة بين الجار والجار. ملأوا القلوب بالضغينة بعد أن كانت قلوباً بسيطة لا تعرف غير الود". مكث عشيق الدين في روما عمراً بأكمله دون أن ينجز ما جاء لأجله، لكنه عاد منها وقد أتم أعظم إنجاز، ربما ليس للبشرية، ولكن لروحه، وهذا ما تنادي به فلسفة الصوفية وكذلك فلسفات الشرق الأقصي: البدء بالنفس، لتتسع حدود ورؤية عشيق فيتجاوز الدين الواحد، للإله مُنزِّل الأديان.