ما جري من نقاشات منذ العام الماضي عن مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، أعاد للأذهان نبرة طالما تم استخدامها في الحقبة »التشرشيلية»، نسبةً إلي وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، لا سيما أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون حذّر في التاسع من مايو الماضي من أن »خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يزيد من مخاطر اندلاع حرب في القارة الأوروبية، وربما تتحول لحرب عالمية»، مضيفاً أنه »في كل مرة ندير ظهرنا لأوروبا فإن ذلك سيعقبه ندم عاجلاً أم آجلاً». وعلي نفس النهج التراجيدي رد عليه بوريس جونسون عمدة لندن السابق الطامع في منصب كاميرون بعد رحيله، الذي تزعم معسكر الرافضين للاستمرار في منظومة أوروبا الموحدة،: »بل يجب مغادرة الاتحاد الأوروبي بأسرع ما يمكن، لأن طموحه هو نفس طموح هتلر: استعباد أوروبا لصالح قوة عظمي لا تعرف الديموقراطية»، وكان جونسون يلمح إلي الولاياتالمتحدة بكلمة القوة العظمي. ال Brexiters أي المؤيدون للخروج من الاتحاد الأوروبي، كانوا حالمين ربما أكثر من اللازم.. يرون في بروكسل (العاصمة البلجيكية بروكسل هي مقر دول الاتحاد الأوروبي) لجاماً للدبلوماسية البريطانية في كثير من القضايا الدولية، وستارة تحجب ضوء شمسها عن العالم، وأنه من الأفضل التخلص من عبء الاستمرار كجزء من قارة عجوز علي وشك الأفول، والاعتماد علي شراكات أمريكية شمالية مع الولاياتالمتحدة وكندا تحديداً، وتعاون أوسع مع نطاق آسيوي أنجلوفوني متمثل في نيوزلندا وأستراليا وسنغافورة والهند، ولكن لا الأمريكيون ولا الكنديون ولا الآسيويون ينظرون للأمر بنفس تفاؤل الBrexiters هذا فضلاً عن أن ثقل وأهمية إنجلترا عند أولئك الذين تريد الاعتماد عليهم كانا مستمدين من كونها عضواً هاماً في الركب الأوروبي. وإذا كان مؤيدو الخروج يتحدثون دوماً عن »علاقات خاصة متميزة» عابرة للمحيط مع الولاياتالمتحدة، فإن واشنطن نفسها بدأت تتجه نحو وسط آسيا غير آبهة بذلك، وكانت تريد الإبقاء علي لندن في أوروبا من أجل بعض الأعمال بالوكالة: توسيع مجال شراكتها، توقيع مزيد من اتفاقيات التجارة الحرة، وفرض عقوبات اقتصادية علي روسيا وقت اللزوم. غير أن الوضع الخطر وحديث الحرب يدور في أيرلندا الشمالية، وربما سيكون خروج بريطانيا بشكل رسمي من الاتحاد الأوروبي بمثابة القضاء علي معاهدة أولستر أو ما يُعرف باتفاق الجمعة العظيمة (10 أبريل 1998) الذي تم التوقيع عليه بين بريطانيا وجمهورية أيرلندا (عاصمتها دبلن) وأحزاب أيرلندا الشمالية (عاصمتها بلفاست)، ويدعو الاتفاق البروتستانت إلي تقاسم السلطة السياسية في أيرلندا الشمالية مع الأقلية الكاثوليكية، وهو ما شكل نهاية حقبة من المواجهات بين الجيش البريطاني (كان يحمي البروتستانت) والجيش الجمهوري الأيرلندي (حامي الكاثوليك)، وأنهي حربا أهلية مذهبية امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، وأودت بحياة 3500 شخص. واليوم يعاود حزب الشين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي والمتواجد في بلفاست ودبلن علي السواء، المطالبة بضم أيرلندا الشمالية إلي جمهورية أيرلندا، وهو الذي لم يتوقف عن ذلك طوال السنوات الماضية، ويبقي السؤال الصعب: ما الذي سيحدث بعدما خرجت اتفاقية الجمعة العظيمة من أروقة الاتحاد الأوروبي؟ هذا فضلاً عن أن جمهورية أيرلندا ترفض بشكل قاطع الانفصال عن بروكسل، وتخيِّم أجواء القلق والتوتر علي بلفاست كما علي دبلن، وهو ما يعيدنا إلي تقرير مجلس اللوردات البريطاني مرة أخري، الذي يشير ضمناً إلي أن أوروبا تكرر ربما علي غير وعي منها، سيناريو الحرب العالمية الأولي: نزاعات بين دول متجاورة قد تتطور إلي حرب شاملة، وهو نفس ما حذر منه ديفيد كاميرون. بمجرد ما ظهرت نتيجة استفتاء الخميس الماضي في بريطانيا، طالبت قوي اليمين الفرنسية، بقيادة زعيمة الجبهة الوطنية ماري لوبان ، باستفتاء مشابه لفك الارتباط مع أوروبا.. الفرنسيون المؤيدون لهذا الطرح يرون بلدهم ضحية لإرهاب ما يُعرف بتنظيم »داعش»، الذي هاجم بلدهم مرتين علي مدار عام 2015 الأولي في يناير والثانية في نوفمبر، ويري هؤلاء أن سياسات أوباما في سورياوالعراق هي ما سمح بتمدد داعش وتغوُّله في أوروبا، ودفع عشرات الآلاف من اللاجئين للزحف صوب القارة العجوز، في أزمة إنسانية هي الأكثر كارثية منذ الحرب العالمية الثانية. ربما كان هؤلاء علي حق فيما ذهبوا إليه، لا سيما أنه في الثالث عشر من نوفمبر 2015 (نفس اليوم الذي شهد هجمات باريس)، ذاعت قناة AB» الأمريكية لقاءً مع الرئيس الأمريكي أجراه الصحفي جورج ستيفان بولوس، وكان محور المقابلة التقدم الذي يحققه ما يُعرف بتنظيم داعش »ميدانيا» لا سيما في شمال العراق، رغم مرور قرابة الخمسة عشر شهراً، آنذاك، علي إنشاء تحالف تقوده واشنطن لضرب تنظيم البغدادي جوا. خلافا للمعطيات علي الأرض أصر باراك أوباما أن تنظيم البغدادي »تم احتواؤه»، ثم كان أن وقعت هجمات باريس كالصاعقة. وفي السادس عشر من نوفمبر، أي بعد هجمات باريس بثلاثة أيام، وعلي هامش قمة العشرين بمدينة أنطاليا التركية، سُئل أوباما تفصيلاً عن استراتيجيته في إيقاف خطورة الجهاديين عموما، فارتدي علي وجهه قناع البرود رافضاً بغضب ملحوظ تقبل أي انتقادات، حينما قال له أحد الصحفيين إنه لا يحارب داعش بالجهد المطلوب. قبل كل ذلك، في الثاني من أكتوبر 2015 وصف مقترحات تقدم بها عسكريون متقاعدون ونواب من الحزب الجمهوري ومن حزبه الديمقراطي من أجل تضييق الخناق علي داعش، ب »البلا بلا بلا»، ليدفع ثمن صلفه بحادث أورلاندو الذي وقع منذ أسبوعين وأودي بحياة 53 أمريكياً وتبناه أمريكي داعشي من أصول أفغانية يُدعي عمر متين قبل أن تقتله الشرطة الأمريكية، في هجوم وُصف بالأسوأ منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.