يفرض فنسنت فان جوخ "1853- 1890" نفسه كأحد الأيقونات العالمية.. لوحاته تباع بأغلي الأسعار.. رسائله إلي أخيه ثيو مازالت ترشد سالكي دروب الفن.. باختصار يفرض فنسنت محبته علي من يعرفه ويثير فضول من لا يعرفه.. هل هي عبقريته الفنية التي تضعه ضمن المؤثرين في حركة الفن الحديث رغم أنه بدأ الرسم متأخرا في سن ال28 ومات مبكرا في سن ال37؟.. أم حياته الدرامية بما ارتبط بها من حكايات وشائعات بسبب مرضه النفسي؟ أم هو سبب غامض تعجز عن بيانه بدقة..هو بالضبط الإجابة المنطقية لسؤال "لماذا تحب فلان؟" فمحبة فنسنت هي المحرك لفيلم "Loving Vincent"والذي عرض ضمن بانوراما الفيلم الأوروبي مؤخرا ويعاد عرضه حاليا في سينما زاوية " الفيلم انتاج بولندي وبريطاني مشترك. ..أخرجه الزوجان دوراتا كوبيلا وهيو ويلشمان وقاما بكتابته بالاشتراك مع جاك ديهنيل.. والفيلم فعل حب خاص نحو الفنان الهولندي استغرق تنفيذه 4 سنوات وتكمن خصوصيته في كونه أول فيلم مرسوم بالكامل بالألوان الزيتية وبفرشاة أكثر من 100 فنان ويتكون الفيلم من إجمالي 64 ألف كادر هم بالفعل 64 ألف لوحة زيتية أعيد رسمها استلهاما للوحات فان جوخ وجعل الفيلم أبطاله من شخصيات رسمها فنسنت في حياته ليدمج الرسم مع الممثلين الحقيقيين في لوحات متحركة تحمل بصمة فان جوخ وبنفس أسلوبه الفني الذي ينتمي لمدرسة ما بعد الانطباعية.. ما بعد التأثيرية لتري وتشعر بضربات فرشاته المتعاقبة والتي تعكس روحا حساسة وأحيانا مضطربة لكنها تحب العالم. تدور أحداث الفيلم بعد عام من وفاة فان جوخ من خلال رحلة يخوضها الشاب "ارماند" ابن ساعي البريد "رولان" لتوصيل رسالته الأخيرة لشقيقه ثيو وعبر الرحلة التي كان محركها محبة الأب لفنسنت و اضطرار الابن الحانق نحو الفنان "المجنون" أو غريب الأطوار كما يراه جيرانه أو حتي " المنتحر ضعيف الإرادة" كما كان يراه هو.. ولكن عبر الرحلة يكتشف أن الحنق ما هو إلا محبة مستترة تظهر في إصراره علي معرفة سبب موته الحقيقي لتمتزج الرحلة بالجريمة من خلال تعقب سيناريو موته بعد إصابته بطلق ناري في البطن في أحد الحقول قبل العودة لغرفته والوفاة بعد يومين ..ويتساءل هل كانت انتحارا كالقصة الرائجة أم قتلا - كما يطرح الفيلم- مشيرا بأصابع الاتهام إلي عدد من الأشخاص ويؤكد تعرض فنسنت للتنمر من المحيطين حتي النهاية ومقابلته للإيذاء بالمحبة حتي النهاية.. ويمكننا القول السرد الدرامي ليس نقطة القوة التي يرتكن إليها الفيلم. خصوصا أنها ليست المحاولة الأولي للتصدي للسيرة الذاتية لفان جوخ اعتمادا علي المصدر الأشهر "رسائله إلي أخيه" فقد ظهر عدد من الأفلام الروائية مثل "Lust For Life"شهوة الحياة عام 1955 الذي أخرجه فنسنت مينيللي وقام بدور فان جوخ الممثل كيرك دوجلاس وطرح الفيلم القديم بتوسع الجوانب الدرامية في حياته التي ظهرت هنا موجزة أو غير محسومة مثل قصصه العاطفية الفاشلة وعلاقته الوثيقة مع أخيه ثيو وخلافاته مع جوجان. لكن براعة الفيلم تأسرك من أول لحظة عندما تطل دوامات ريشته.. قد يشعر البعض بالزغللة من الصورة في الفيلم ولكن محبي فنسنت سيستعيدون ذاكرة لوحاته ليتعرفوا منها علي الأماكن والشخصيات ومع كل مشهد نري العالم الذي رسمه فنسنت يعود ملونا وزاهيا -رغم وفاته- بينما يسيطر الأبيض والأسود علي حياته في ذكريات الفلاش باك وكأن العالم عجز عن استيعاب روح فنسنت المرهفة في حياته وحبسه في سجن الأبيض والأسود بينما انطلقت ريشته لترسم عالما بالألوان.. ينبض بالحب صادقا لدرجة أن استمر بعد وفاته.. عرف صناع الفيلم أن اللوحات تحمل حياة خاصة تستمدها من روح الرسام -كما قال فنسنت- لذلك أحيوا لوحاته واعتبروها الأصدق في التعبير عن قصة حياته إذ أظهرت روح الأبطال قبل مظهرهم وعمدوا إلي تقديم الشخصيات مثل ارماند و الدكتور جاشيه في مشاهد تستنسخ لوحاته وفي ختام الفيلم كانت المقارنة بين الأصل والتجسيد ليخلق الفيلم بأسلوبه وموسيقاه لوحة طويلة في حب فنسنت بدأت من العنوان سواء كان المقصود "المحب فنسنت" كما كان يختم بها الفنان رسائله لأخيه أو كان المعني الأشمل "محبة فنسنت" وهي الشعور الذي يقوم عليه الفيلم ولعله يصل إلي مشاهديه.