* في كل مرة ينهزم الفريق أو يفشل نسن السكاكين علي المدير الفني وجهاز التدريب.. وتنجح الحملة دائماً ويتغير الجهاز الفني ويرحل ونكسر خلفه ألف "قلة".. ويحل محله جهاز جديد.. ونقيم الأفراح والليالي الملاح لأن حملتنا نجحت في إقصاء الجهاز الفني الفاشل "وخلاص عملنا اللي علينا".. وكل المشاكل انتهت وسيصبح الفريق بطل العالم.. وبعد قليل ينهزم الفريق ويفشل في ظل الجهاز الفني الجديد.. ونعيد الكرَّة. ونسن السكاكين والمطاوي علي الجهاز الذي طالبنا به.. وتنجح نفس الحملة. ويرحل جهاز فني تلو الآخر ولا يتحقق فوز ولا بطولات.. ونكسر ملايين القلل خلف الأجهزة الراحلة حتي لم يعد عندنا أي قلل لنكسرها فنستورد قللاً من الخارج بالعملة الصعبة لنكسرها خلف كل جهاز طالبنا برحيله. ولا لوم علي اللاعبين "الكسر" والإدارة "الخربانة" والجمهور البلطجي.. فالفوز عبقرية مدرب.. والهزيمة غباء نفس المدرب.. وقد أعجبت الحكاية اللاعبين والإدارة. فأصبح من السهل إقصاء أي مدرب علي هواهم بالتآمر عليه والتقاعس في الملعب وتفويت المباريات وبيعها للخصم.. وفي النهاية "يطلع اللاعبون والإدارة منها كالشعرة من العجين. ويشيل المدرب الليلة". لا تحسبوا أن هذا مقال رياضي.. ولكنها محاولة لتقريب الصورة العامة إلي أذهانكم.. فهذا هو الذي يحدث في مصر وينطبق علي كل المجالات.. وبطل هذه الرذيلة هو الإعلام المقروء والمسموع والمرئي.. هو نفس أسلوب السباكين والميكانيكية والسمكرية. وكل الحرفيين.. أسلوب التغيير وليس الإصلاح.. لم يعد في هذا الوطن مصلحون أو مطالبون بالإصلاح.. لكنه امتلأ بالمطالبين بالتغيير.. تغيير الأشخاص والأبواب وقطع الغيار.. إلقاء القديم في الزبالة وتركيب جديد بدلاً منه.. لأن الإعلامي أو السياسي أو المسئول ليس عنده إبداع الإصلاح. لذلك يتبع الأسهل وهو التغيير.. كما أن التغيير أغلي من الإصلاح.. تماماً مثل عمليات الولادة القيصرية "سهلة وغالية". ويمكن للطبيب إجراء عشر عمليات قيصرية في عدة ساعات. بينما تستغرق ولادة واحدة طبيعية عدة أيام "وهو مش فاضي.. افتح يا جدع وخلص".. والأهم أن الطبيب يضمن في الولادة القيصرية أنه بلا منافس. بينما يمكن أن ننافسه في الولادة الطبيعية "داية أو حكيمة. أو ممرضة. أو حتي جارة المرأة الحبلي". والإعلام يلعب نفس دور الحرفي. أو طبيب الولادة القيصرية.. ليس عنده إبداع إصلاح ما هو قائم. والأسهل أن يطالب بتغييره ونسفه. ليحل محله جديد يتعرض بعد حين لنفس الهجوم.. والمضحك المبكي أننا نفعل نفس ما يفعله الحرفي.. وهو مثلاً تغيير "قلب الحنفية أو السيفون أو الدش" ونفاجأ بعد رحيل السباك وإعطائه أجراً مضاعفاً بأنه وضع قطعة غيار جديدة في منظومة "بايظة كلها".. أو أن السيارة ذهبت إلي المكان الخطأ وتم تركيب قطعة جديدة في منظومة مختلة.. ونفاجأ أيضاً بأننا أحضرنا وتعاقدنا مع أعظم مدير فني عالمي ليدرب فريقاً "أكتع" ويعمل في منظومة فاسدة و"خربانة". وعندما تقرأ الصحف وتتابع الفضائيات يتسرب إليك وإليَّ أيضاً. اقتناع يشبه اليقين بأن هذا البلد لم يعد فيه وطنيون سوي كاتب المقال. أو مقدم البرنامج.. وأن كل الناس سواه خونة ومتآمرون وعملاء ومأجورون وقبيضة و"أولاد ستين كلب".. كاتب المقال أو مقدم البرنامج يطالب مثل الحرفي بتغيير الحكومة المرتعشة أو إقصاء الوزراء والمسئولين ومحاكمة آخرين.. كل الناس عنده فاسدون ومشبوهون. إلا هو "بسلامته". وفي الصحافة والإعلام نقول لبعضنا ما لا تعلمونه أنتم أيها السُذَّج: "لازم نسخن المسائل شوية. علشان نبيع ونجيب إعلانات. ونجتذب مشاهدين".. لا يمكن أن ننافس إلا إذا عملنا جنازة وشبعنا فيها لطماً.. لابد أن نكف عن نفاق الحكومة والدولة حتي نكتسب ثقة القارئ والمشاهد. المطالبة بالإصلاح لا تجدي.. وليست "بياعة".. ولكن المطالبة بالتغيير هي "البياعة". وهي التي تجتذب الناس.. الناس أيضاً يريدون جنازة ليشبعوا فيها لطماً.. الموضوعية والهدوء يؤديان إلي الخسارة وانصراف القارئ والمشاهد عنا. وهو مبدأ راسخ في الإعلام تحدث عنه بوضوع شاعر العامية الراحل الكبير بيرم التونسي وكان صحفياً كبيراً.. حين قال: وإن كنت أكتب في الحكمة.. وفي البخاري والختمة وأخلي جورنالي حشمة.. بالشكل ده الجورنال يخسر والإعلام عندنا هو سبب كل "البلاوي".. لأنه يعمل بمبدأ غبي وهو أن الموافق منافق.. والمعارض شجاع وجريء. الموافق أو المؤيد منافق وإن صدق.. والمعارض والزاعق والقادح شجاع وجريء وبطل وإن كذب.. وهذا عيب شعب أيضاً.. فشعبنا ليس موضوعياً ولا منطقياً مثل إعلامه.. شعبنا متطرف ومبالغ "شعب أبوالهول".. يعني يحب التهويل. خصوصاً في الشر والذم والإرهاب.. لذلك يحب الكذب. ويكره الصدق.. يحب الهجاء. ويكره المدح.. يكره الحكومة.. أي حكومة. حتي إذا كانت حكومة ملائكة. ويحب المعارضة. ويثق بها. حتي إذا كانت معارضة شياطين. * * * * * وعموماً.. هذا الإعلام.. وهذه الحكومة من ذاك الشعب.. ونحن نعمل في السياسة والاقتصاد والإعلام والفن بشعار "الجمهور عايز كده".. ونحن نقدم للجمهور ما يريده. حتي إذا كان يضره ولا يفيده.. وهو دائماً يضره. ولا يفيده. ونحن نحمل الحكومات كل الأوزار والمشاكل.. فإذا صار التكدس المروري خانقاً. فإن العيب في الحكومة.. وإذا تهالكت القطارات. فإن الحكومة مهملة.. وإذا اشتعلت الأسعار. فإن الحكومة فاشلة.. وإذا عثرت بغلة في العراق فإن الحكومة المصرية هي السبب.. وإذا مات المئات غرقاً في بحر الهجرة غير الشرعية فإن الحكومة "عايزة الدبح".. وإذا تآكلت الرقعة الزراعية بالبناء عليها. فإن الحكومة مهملة.. وإذا غضبت المرأة من زوجها وتركت له البيت وذهبت إلي بيت "اللي خلفوها" فإن الحكومة هي التي أوقعت بينهما. لأنها جعلت المعيشة "زي الزفت".. وإذا خانت الزوجة زوجها فإن الحكومة هي السبب لأنها جعلت الزوج مطحوناً طوال النهار والليل. بحثاً عن لقمة العيش.. وهذا كله يشبه فريق كرة القدم المهزوم.. فالعيب والمشكلة في الجهاز الفني. ولا يجرؤ أحد في الإعلام علي أن يقول إن المشكلة والمأساة في المنظومة.. في سلوكيات الشعب.. لأن الشعب هو الذي يشاهد ويقرأ ويشتري. ويزيد التوزيع. ونسبة المشاهدة والإعلانات.. وتغيير الحكومة مثل تغيير جلدة الحنفية.. لا يجدي لأن المنظومة كلها "بايظة".. "يعني إيه نرمي حكومة ونركب حكومة جديدة؟!!.. ما هي الحكاية كلها خربانة"!!.. الطالب هو الغبي والبليد والحمار.. وأسهل شيء عنده أن يتهم المدرس والناظر والمدرسة كلها. والفرق بين الدول المتخلفة والدول المتقدمة هو أنك في الدول المتقدمة. لا تشعر علي الإطلاق بأن هناك حكومة.. "حكومة تروح وحكومة تيجي".. والمنظومة كما هي منضبطة وهادئة.. والسر في الشعوب.. أما في الدول المتخلفة فإنك تصحو علي الحكومة وتنام علي الحكومة وتأكل مع الحكومة وتتعارك مع الحكومة.. والسر أيضاً في الشعوب المنفلتة. والمتطرفة والحمقاء.. الحكومة عندنا مثل حكم كرة القدم الذي تفلت منه المباراة. فيصبح هو الأشهر فيها ببطاقاته الحمراء والصفراء واحتسابه أهدافاً غير صحيحة لأن المنظومة كلها سيئة ولأن اللاعبين منفلتون ونصابون. ويتفرغون لضرب بعضهم.. أما في الدول "اللي فاتح عليها ربنا" فإن الحكومة تشبه حكم مباراة رائعة مليئة بفنون الكرة "مافيش ثانية بلا إبداع".. ولا تشعر بالوقت وأنت تتابع ولا تشعر بالحكم علي الإطلاق.. الحكم عندنا فاشل. لأن المباراة فاشلة وسخيفة ومملة ودامية.. والحكم عندهم ناجح لأن المباراة رائعة وشيقة. ولأن كل لاعب يعرف دوره.. ولأن الجمهور مثالي.. ولأن التعبير عن الفرحة بالهدف ممتع.. والتعبير عن الحزن للخسارة راق وممتع أيضاً.. حتي تعبيرهم عن الحزن يمتعك. إعلامنا فاشل لأنه صارخ وزاعق ومتطرف.. وإرهابي أيضاً مثل شعبنا.. وإعلامهم ناجح لأنه ذكي حتي في تسويق الكذب. وموضوعي حتي في ترويج الشائعات.. لذلك كان صدقنا كاذباً. وكان كذبهم صادقاً.. فإذا أطلقوا الشائعات صدقناها. وإذا نقينا شائعاتهم كذبنا أنفسنا.. إعلامنا غبي لأنه لا يري الوطن ولا مصلحته. ولكنه يري نفسه فقط.. كاتب المقال أو مقدم البرنامج لا يعنيه سوي نجاحه هو والإقبال عليه والاتصالات الهاتفية والرسائل التي تقول له: "ربنا يخليك لينا.. أنت أعظم واحد في مصر".. ونحن نعرف "الفولة" ونعرف أن المتصلين ومرسلي الرسائل من الأصدقاء والأقارب. ومن المخدوعين أيضاً.. ونعرف كيف يتم إعداد الطبخة لكن الناس في مصر لا يفقهون ولا يعلمون ولا يتعظون. ولو أن أحد هؤلاء اختير وزيراً في الحكومة التي يهاجمها. لتحول فوراً إلي الضد.. وانتقل فوراً من الهجاء إلي المدح. ولالتمس للحكومة ألف عذر.. أما وقد تجاوزه الاختيار. ووضع يده في الماء البارد. فإنه باق علي القدح. والهجاء. والانفلات اللفظي. * * * * * "ياع عم الحاج".. قلت لك قبل اليوم إن العيب عيب "عربية مش عيب سواق".. لو استعنت بسائق من الجن الأحمر. فلن تحرك السيارة "الخربانة" ساكناً.. سائق إخواني.. سائق سلفي.. سائق ليبرالي.. سائق شيوعي.. "كله محصل بعضه".. يتعاقب عليها السائقون بلا جدوي.. ويتهم الإعلام السائق بأنه حمار. ويطالب بتغييره. ولا أحد يطالب بإصلاح السيارة.. "فنحن شطار في المطالبة بالتغيير ولا نعرف شيئاً عن الإصلاح".. الإناء هو المسمم. وليس السائل الذي تضعه فيه.. فلا جدوي من أن تسكب العسل بدعوي أنه مسمم وتضع بدلاً منه لبناً.. اللبن أيضاً سوف يتسمم. لأن الوعاء مصنوع من مادة سامة.. تسممت وتلوثت في إنائنا الاشتراكية. وتلوثت وتسممت الرأسمالية.. بل وتلوث وتسمم الدين.. كل المتضادين في الفكر يلتقون في نقطة واحدة. هي التطرف والإرهاب والحماقة والغباء. والكراهية.. وكل تيار له أهل وعشيرة.. فسدت في إنائنا الثورة.. وتلوثت الشعارات.. وفسدت المظاهرات التي يفترض أنها مظهر من مظاهر الديمقراطية. فإذا بها عندنا مظهر من مظاهر البلطجة والحماقة والغباء.. الناس في الدول "اللي فاتح عليها ربنا" يتظاهرون ويحتجون تظاهر واحتجاج البشر.. وعندنا يتظاهرون ويحتجون تظاهر واحتجاج البقر والحيوانات السائبة. التي تهلك الزرع. وتبرطع وترفس وتنطح وتخرب الدنيا.. وسنظل علي ما يبدو طويلاً نعاند ونكابر ونأكل المتردية والنطيحة. ونرفض النصيحة بالعامية والفصيحة!!! نظرة * صديقي أشرف الحسانين.. مدرس اللغة الإنجليزية.. بنبروه دقهلية.. يسألني سؤالاً صعباً جداً: هل سنحيا حتي تعود إلينا مصر التي أحببناها مرة أخري؟!.. يا صديقي: أنا لا أراهن علي عودتها في حياتي. "يالله حُسن الختام".. فمنذ صباي أنتظر ما لا يأتي.. وأتمني ما يبدو مستحيلاً.. في طفولتي قالوا لي ولأمثالي: إننا الجيل الصاعد. فإذا بنا في النازل حتي الموت.. وقالوا إنهم يعملون من أجل الأجيال القادمة.. أي من أجلنا.. وعشنا حتي أصبحنا أجبالاً غابرة في الليالي القاتمة.. والأجيال القادمة لا تأتي أبداً.. والشعارات بلا مضامين.. ووقفنا طويلاً "علي راس بستان الاشتراكية.. وعلي راس بستان الرأسمالية.. وعلي راس بستان الإسلامية".. وقالوا لنا: نفوت علي الصحرا تخضر.. فإذا بنا نفوت علي الخضرة تتصحر وتصفر".. قست قلوبنا فصارت كالحجارة أو أشد قسوة وتصحرت عقولنا وأفكارنا وضمائرنا.. وتعاقب عليَّ وعلي أمثالي الجراحون ليجروا لنا جراحة زراعة قلب. بدلاً من الذي قسا وتحجر.. لكنهم أخطأوا وأجروا جراحة "زرع كلب".. بدلاً من القلب!!!