في وقت باتت القبضة الأمنية عاجزة عن حشد المصريين للمشاركة في المسرحيات الهزلية المسماة ب”انتخابات” في زمن السيسي، تفتّق ذهن أجهزة الاستخبارات والأمن ومنظومة جهنم التي تدير مصر في زمن العسكر، عن حِيل جديدة للضغط غير المباشر على المصريين للمشاركة في المسرحية، ومن بين تلك الوسائل التي تعبر عن التصحر السياسي والانهيار الاجتماعي الذي أصبح عنوانًا لمصر في ظل العسكر، بدأت حكومة الانقلاب مساومة السواد الأعظم من المصريين في شأن زراعة المحاصيل الصيفية، نظير المشاركة في الاستفتاء الفاضح الذي سينطلق بعد أيامٍ. وكشفت مصادر بالإدارة المحلية ومديرية الزراعة بالغربية، عن إصدار مديرية الزراعة تعميمًا بمنع زراعة الأرز في الأحواض التي كانت تزرعه العام الماضي؛ بحجة النقص الحاد في مياه الري، ما دفع آلاف المزارعين إلى الإعلان عن غضبهم العارم، متخوفين من بوار أراضيهم لعدم زراعة محصول الأرز، وهنا جاءت الحبكة الحكومية بالإيعاز لكوادر حزب “مستقبل وطن” ونواب برلمان السيسي، بفتح مكاتبهم ومقراتهم للفلاحين وأسرهم لاستيعاب غضبهم، والجلوس مع الفلاحين والتحاور معهم. وبحسب أحد الفلاحين المشاركين بإحدى تلك الجلسات، كشف عن أن النائب طلب منهم المشاركة بكثافة في الاستفتاء القادم، وتعليق لافتات بأسماء الفلاحين وعائلاتهم تؤيد الاستفتاء نظير التصريح لهم بزراعة الأرز، وهو ما مثل صدمة لكثير من الفلاحين الذين امتعضوا من وسائل السيسي القذرة لإظهار مشاركة المصريين في الاستفتاء. مصالح ورشاوى يشار إلى أن نظام السيسي ينوّع في وسائل القمع للمصريين، بين التضييق والعطايا والرشاوى؛ لتعويم شعبية السيسي والعسكر الفاشلين، فمن حصار الميادين إلى حجب المواقع الإلكترونية، وصولا إلى التضييق والاعتقال، تستمر السلطوية في مصر، في ذلك كله، حتى في استحقاق الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ليعلن الشعب نظريًّا قبوله أو رفضه، فيما يمثل تمرير التعديلات مشهدًا للإذعان، ليس فيه ملامح لحرية التعبير أو الاختيار. ويمثل أيضا تجسيدًا لفرض سلطة الأمر الواقع، بغرض استدامة عملية هيمنة مطلقة، عنوانها الرئيس حكم الفرد، حتى وإن تجمّل بعضهم بأن التعديلات تضمن بقاء الدولة والحفاظ على استقرارها وقوتها، واستكمال خطط التنمية، وغيرها من مصطلحات تصاحب عمل كل نظام من أجل البقاء في الحكم. وبحسب المحلل السياسي عصام شعبان، يُبرز الواقع أن المصالح الاقتصادية تلعب دورًا رئيسًا في تمرير التعديلات الدستورية، وهي انعكاس لسيطرة فئات وطبقات اجتماعية على الحكم والاقتصاد والثروات، مستخدمةً كل أدوات القمع والتخويف، بجانب تزييف الوعي، لتُبقي على مكاسبها المرتبطة باستمرار النظام، ولذلك تسانده بقوة. ولا يُمرَر المشهد بالتضييق والدعاية وحسب، فهناك رشاوى، بعضها اقتصادي في شكل منح وعلاوات وترقيات، لتحاول معالجة الشروخ في الكتلة الاجتماعية التي كان جزءٌ منها يؤيد سياسات النظام، لتستفيق على الأزمة الاجتماعية المتسعة يومًا بعد يوم. وهنا تظهر العلاقات الاقتصادية بين الدولة وموظفيها بوصفها إحدى أدوات الإخضاع والهيمنة والاستمالة والاستقطاب؛ لأن العقوبات الإدارية غير كافية في إخضاع الموظفين وحشدهم في التصويت. ولذلك استخدمت الدولة بند الأجور كحوافز تسهّل عمليات الهيمنة السياسية وكسب التأييد والولاء. غرفة برلمانية ثانية وهناك أيضًا مصالح سياسية متنوعة، فالتعديلات تتضمن بندًا بإنشاء غرفة برلمانية ثانية، تستوعب بعض النخب التي يلحظ تململها من التهميش الذي فرضته السلطة عليها، رغم ولائها له، بجانب وعودٍ بمنح النساء والشباب والأقباط نِسبا في البرلمان المقبل، وهو ما ينعكس في دعاية حملات طرق الأبواب والأنشطة الدعائية التي تمارسها منظمات نسوية تابعة للدولة، أو مجموعات شبابية كتنسيقية شباب الأحزاب، وكذلك توجهات كنسية تستغل حالات التمييز الديني والحوادث الطائفية ومشكلات الأقباط في حشدهم للتأييد، مصورين أن أي معارضةٍ للنظام هي اصطفاف مع تيار الإسلام السياسي، والإخوان المسلمين تحديدا، وما يحمله هؤلاء من أفكار تهدّد أوضاع الأقباط وتزيدها تعقيدا. ويتضح أن عملية تعديل الدستور، بداية من طرحها وترويجها وحتى إقرارها مستقبلا، تتسم بالقسرية، فالإعلان ليس تعبيرا عن إرادة شعبية، ولكن يراد أن يصوّر بهذه الصورة عند إقراره من خلال الاستفتاء، فأعضاء مجلس نواب العسكر الذين مرّروا التعديلات يريدون تحقيق فوز سهل مستقبلا في الانتخابات البرلمانية المقبلة، عبر اختيارهم ضمن قوائم السلطة التي لا بد أن تستمر، لكي يضمنوا وجودهم في البرلمان المقبل، ويحققوا مصالحهم ومصالح من موّل حملاتهم أو من أوصى بمرورهم السهل إلى البرلمان، حتى الذين تغيبوا عن جلسة التصويت على مقترح التعديلات الدستورية في الجلسة العامة لبرلمان العسكر، حرصوا على إصدار بيانٍ لاحقا لتأييد مقترحات التعديلات الدستورية، حتى لا يغضب منهم من جاءوا بهم إلى البرلمان. لم يعكر صفو هذا المشهد السلطوي الذي يشبه اللعب المنفرد سوى ما سمّي بحوار مجتمعي، شاركت فيه شخصيات عامة وأحزاب فى جلسات استماع في مجلس النواب، لكن هذا الحوار لم تعلن تفاصيله في أي وسيلة إعلامية مصرية، وكأنه كان همسا مشينا. ولكن سرعان ما تكشف أن “مشهد الحوار” بشأن التعديلات الدستورية كان ضمن 3 قضايا رئيسية ستطرح في زيارة رسمية للجنرال عبد الفتاح السيسي إلى واشنطن، بجانب قانون الجمعيات الأهلية الذي تم تغييره قبل الزيارة بيومين، ومسألة تسهيل عمل الأجانب في الجمعيات الأهلية والحقوقية، وتحفيز أنشطة المستثمرين الأجانب في السوق المصرية. تلك الرشاوى لم تمنع حظر الفعاليات السياسية التي طالبت بها أحزاب الحركة المدنية، وأيضا اعتقال كل من يكتب منشورًا عن رفضه للاستفتاء والتعديلات. وبحسب مراقبين تبرز خطورة ممارسات نظام السيسي في اختزال الدولة المصرية وسياساتها في شخص السيسي المنقلب، بلا مراعاة لمقتضيات الأمن القومي والدولة المصرية وفعالياتها وقواها السياسية والاجتماعية.