أتذكر هذا اليوم جيداً، ربما لم ولن أتذكر تفاصيل يوم مثله فى حياتى، كان يوم 14 /11/2013 أى قبل رحيلك عن الدنيا بيومين فقط، كنا سوياً فى المستشفى، أنت ترقدين على ذلك السرير وعلى يسارك مجموعة من المحاليل، أحدها موصل بيدك اليسرى، بينما أجلس أنا على الكرسى بجوارك، أراقبه وهو يتدفق ببطء إلى وريدك، وقبل أن تنزلق آخر قطرة أدق الجرس طلباً للممرضة لتضع لك غيره، كنت كلما شعرت بالرغبة فى النوم اقتربت بالكرسى أكثر وأكثر حتى لا أغفو عنك إن استيقظت واحتجت شيئاً، كانت الأدوية التى يعطونها لك تجعلك تنامين كثيراً، فكنت أنتهز تلك الفرصة كى أنظر إليك وأدقق فى ملامحك، كنت ألمس يديك وأمسك بأصابعك، وأحاول ألا تشعرى فتستيقظى، أتأمل هذا الوجه الملائكى وأسترجع معه عمرى كله بين يديك، وفى إحدى المرات فتحت عينيك الجميلتين، نعم والله يا أمى كانتا لا تزالان جميلتين رغم المرض والألم، ساعتها نظرت إلىَّ وقلت لى «معلش تعبتك معايا يا بنتى معلش بكرة أريحكم منى وكل واحد فيكم يرجع يعيش حياته، ما هو ده حال الدنيا»، كم أوجعتنى تلك الجملة، ساعتها يا أمى كنت أريد أن أقوم من على الكرسى وأغضب ويعلو صوتى وأصرخ وأرجوك ألا تقولى هذا أبداً مرة ثانية، ولكنى قبلّت جبينك وحاولت مداعبتك وقلت لك «شكلك زهقتى مننا ومش عاوزة ترجعى تعملى لى طبق الملوخية اللى بموت فيه». كذبت يا أمى حين قلت لى إننا سنستطيع أن نعيش حياتنا من بعدك، وأكاد أجزم أن هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى كذبت علىَّ فيها، فمنذ غبت وأنا لم أعد أستطيع أن أعيش حياتى من بعدك، لم يعد لها طعم يا أمى، لم يعد لها معنى، لم أعد أشعر بالأمان، لم أضحك ضحكة من القلب، أصبحت أضعف كثيراً من ذى قبل، وعندما أبكى على أى موقف كان كبيراً أو صغيراً أبكى بشدة كطفلة صغيرة، وكأن هناك ملايين الدمعات لم تذرف بعد حزناً عليك، فأخذت تبحث عن طريق مع أى موقف أتعرض له. لا يا أمى لا تقولى لى إننى قوية وإنك كنت تستمدين منى القوة، وكنت ترين فى الفتاة التى كنت تحبين أن تكونيها، لا يا أمى فقد اكتشفت أننى وأنت خُدعنا فى هذا الأمر، فمصدر القوة الحقيقية فى حياتى هو أنت.. أنت فقط، بل إن ضعفك كان أساس قوتى. نعم يا أمى أصبحت أماً وعلىَّ أن أبقى قوية لأحاول تربيتها جيداً، ولكن حتى طفلتى الصغيرة كلما نظرت إليها تذكرتك، كم تعبت وسهرت وعانيت بينما كنت طفلة لا حول لى ولا قوة، وإن كنت عشقتك بعدما كبرت ورأيت ما تفعلينه لأجلى فما بالى وأنا أرى فى طفلتى كم أحببتنى وعشقتنى وتعبت من أجلى حينما لم أكن أدرك من الدنيا شيئاً. نعم كذبت علىَّ يا أمى، ولكنى أعلم أنك كنت تحاولين التهوين علىَّ ليس أكثر، سامحتك يا أمى على تلك الكذبة البيضاء، وسامحينى أنت أيضاً على الكذبة الوحيدة التى كذبتها عليك، نعم لم أستطع أن أواجهك بحقيقة مرضك، فقد كنت لتوك عائدة من رحلة العمرة سعيدة كطفلة صغيرة أحضر لها والداها ملابس العيد، وعندما أجرينا التحاليل والفحوصات علمت أنك مصابة بسرطان القولون، لم أستطع أن أخبرك، كان لدىَّ أمل كبير أن تهزمى هذا الملعون إذا لم تعلمى أنه بدأ ينهش فى أعضائك، ووالله لو كنت أستطيع أن أقاومه معك لفعلت ولربما واجهته وحدى من دونك. آه يا أمى لو تعلمين كم عانيت حتى أخفى عنكِ حقيقة مرضك، كم كان صعباً علىّ ألا أهرع إليكِ وأختبئ فى حضنك وأبكى، لا.. فى الحقيقة بكيت.. نعم بكيت فى حضنك ولكنى فعلت ذلك دون أن تشعرى، كنت أنتظر اللحظة التى تشاهدين فيها التلفاز وأرفع صوته قليلاً وأختبئ فى حضنك وأبكى دون أن تسمعينى، اعذرينى يا أمى فليس لى مكان أدفأ من حضنك لأختبئ فيه من أحزانى. سامحتك يا أمى على كذبتك البيضاء فسامحينى.. وانتظرينى.