يدور نقاش محتدم حول الفاعلين الجدد فى الشرق الأوسط الجديد -وفى القلب منه الوطن العربى- وأيهم يمكن الرهان عليه، تحقيقاً للمصالح الأمريكية، أو فى القليل تحجيم الخسائر الناجمة عن الإطاحة ببعض أبرز حلفاء الولاياتالمتحدة، من جراء تطورات الربيع العربى. ولما كان ثمة بروز واضح فى عدة ساحات عربية (وغير عربية) لما يسمى تنظيم داعش، وبدرجة أقل تنظيم القاعدة، فلقد فتح النقاش حول أى مستقبل للتنظيمين، وانخرط عدد من أبرز الكتاب الأمريكيين فى المقارنة بين التنظيمين، وخلف هذه المقارنة يكمن السؤال المهم: أى التنظيمين يمكن أن تتعاون معه الولاياتالمتحدة، ولو على المديين القصير والمتوسط؟. تحت عنوان («النصرة» تسعى للدعم الأمريكى: لكن هل ثمة وجود لجماعة إرهابية «معتدلة»؟) كتب «روبرت فيسك» مقالاً مهماً فى جريدة «إندبندنت» يوم 7 يوليو الحالى تصدى فيه بوضوح لمحاولات تلميع «جبهة النصرة» وطرحها كحليف محتمل للولايات المتحدة فى مواجهة «داعش»، ومعلوم أن «جبهة النصرة» هى ذراع تنظيم القاعدة فى العراقوسوريا. التمس «فيسك» العذر للعرب فيما ذهبوا إليه من أن تنظيمى «داعش» و«النصرة» صنيعتان أمريكيتان، فالولاياتالمتحدة التى دعمت نظام حافظ الأسد واعتبرته مفتاح السلام فى الشرق الأوسط على حد قول «فيسك»، ونظرت بإيجابية إلى بشار الأسد -كطبيب شاب جاء لتحديث سوريا- لم تنقلب عليه، ولا اكتشفت تسلطيته، إلا بعد أحداث الربيع العربى، وهنا ظهر فجأة قاطعو الرؤوس من «الجهاديين» وتصدروا واجهة المشهد الميدانى. واستطرد «فيسك» معززاً استنتاجات العرب بخصوص علاقة الولاياتالمتحدة ب«داعش» و«النصرة»، مذكراً بأن «داعش» لم تفعل شيئاً للفلسطينيين، وأن جرحى «النصرة» يعالجون فى المستشفيات، يريد بذلك أن يقول إن أمن إسرائيل يمثل نقطة التقاء بين الولاياتالمتحدة وكل من «داعش» و«النصرة». لا أحد يستطيع أن يقطع بحدود المسئولية الأمريكية عن خلق «النصرة» و«داعش»، لكن الأمر المتيقن هو أن «النصرة» ذراع لتنظيم القاعدة الذى انبثق عن تبعات تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفيتى، ومعلوم أن حرب التحرير هذه خاضتها الولاياتالمتحدة كتفاً بكتف مع الحركات الإسلامية فى أفغانستان، حتى إذا شبت تلك الحركات عن الطوق ومثل بعضها تهديداً مباشراً للولايات المتحدة، بدأ الصدام داخل أفغانستان وخارجها. والأمر المتيقن أيضاً أن «داعش» الذى يتمدد فى العراقوسوريا ولبنان ويتسلل إلى ليبيا وتونس والكويت ومصر رغم قصف طيران التحالف الدولى بقيادة أقوى جيوش العالم، بل يتحدث عن دولة الخلافة ويسمى الولاة وينشئ المجالس والوزارات، هذا التنظيم يمثل ظاهرة ملغزة لا يكفى لتفسيرها الحديث عن وجود حاضنة شعبية، فكل الحركات المتمسحة بالدّين مسلحة وغير مسلحة لها حواضن شعبية، كما لا يكفى لتفسيرها بريق دعوة الخلافة، فما من حركة تتمسح بالدين وتتمدد عبر الحدود إلا ويداعبها حلم الخلافة من أول جماعة الإخوان المسلمين حتى تنظيم القاعدة مع اختلاف فى الأولويات والتكتيكات، إذن ثمة تفسير مفقود لظاهرة «داعش» وفى هذه المساحة الغامضة تنطلق التكهنات عن حدود المسئولية الأمريكية. وعندما يتردّد اليوم الحديث عن المفاضلة بين «النصرة» و«داعش»، فإن هذا يعنى ببساطة أن هناك ما يجعل «النصرة» فى هذه المرحلة أكثر تحقيقاً للمصالح الأمريكية، وأن التقدم الميدانى ل«داعش» لا يعنى أفول «القاعدة»، مما يعنى أنه يمكن الرهان عليها، خصوصاً مع صعوبة الرهان على «داعش»، فى ظل مشاهد النحر الجماعى التى ينفذها «داعش» وتبثها كل فضائيات العالم. وحول مزايا «القاعدة» مقارنة ب«داعش» كتب سكوت ستيوارت مقالاً فى النشرة التى تصدرها مؤسسة «ستراتفورد» الاستخباراتية يوم 11 يونيو الماضى، رد فيه على مقال لجورج فريدمان فى النشرة نفسها بتاريخ 9 يونيو ودافع عن أن تراجع «القاعدة» لا يعنى زوالها ليس فقط لأن فكر «القاعدة» ككل فكر لا يندثر، لكن أيضاً لأن الحركات الجهادية تمر بنوبات مد وجذر، وفيما يخص «القاعدة» فإنها حققت نجاحات عسكرية فى الشهور الأخيرة فى إدلب وجسر الشغور، إلا أن الإعلام لم يولها اهتماماً، عكس استيلاء «داعش» على بالميرا مثلاً (وكأنه بذلك يتهم الإعلام الغربى بالتحيز ل«داعش»!). أما أهم ما يميز «القاعدة» من وجهة نظر «ستيوارت» فهو أنها معتدلة إذا ما قورنت ب«داعش»، والدليل أنها تدير المناطق التى تسيطر عليها ب«ليونة»، كما يحدث فى حضرموت باليمن، حيث لم تفرض الشريعة «بصرامة»، بعكس سلوك «داعش» فى سورياوالعراق. نسى «ستيوارت» أن هذه «الليونة» هى ليونة تكتيكية بدليل أن «الجولانى» زعيم «النصرة» كرر عدة مرات فى حديثه مع أحمد منصور أنهم «فى هذا الوقت» لا يقاتلون إلا من يقاتلونهم، مما يعنى أنه حين يستتب لهم الأمر سيقاتلون مخالفيهم، حتى إن لم يرفعوا عليهم السلاح، نسى «ستيوارت» ونحن نذكره أن «النصرة» حين كانت اللاعب الرئيسى فى سوريا لم تتورع مثلاً عن اختطاف 14 راهبة من قرية يبرود شمال دمشق، إلا أن يكون «ستيوارت» اعتبر أن الراهبات أشهرن السلاح فى وجه «الجولانى»! لتختار الولاياتالمتحدة من تراهن عليه: «داعش» أو «النصرة»، فخيارها لا يلزمنا قيد أنملة، لكنها حين تختار أيهما، عليها أن تبرر كيف تضع الجماعتين فى قائمة التنظيمات الإرهابية، ثم تفكر بالتحالف مع إحداهما ضد الأخرى، وعليها أن توفق بين ضرب «القاعدة» فى شبه الجزيرة والتحالف معها فى الشام، وعليها أن تعتذر لكل ضحايا غزوها أفغانستان إذا قررت أن تؤسس تحالفاً على جثثهم، وعليها أن تعى أنها لا تستطيع إقامة حكم إخوانى فى مصر وليبيا وحكم قاعدى فى العراقوسوريا، لأن خلاف ذوى الجذور المشتركة أعنف خلاف. خيار الولاياتالمتحدة لنفسها لا نحتاج إلى مروجين له ولا مدافعين عنه، فما زلنا حتى هذه اللحظة ندفع ثمن فاتورة مشاركتها فى تحرير أفغانستان من الحكم الشيوعى وإدارة حروب السياسة بأسلحة الدين.