رحمة الله عليك يا أمى، فقد فارقتِنى وأنا ما زلت صبياً مراهقاً فى السادسة عشرة من عمرى أستعد لامتحان الثانوية العامة، وكان موت أحد والدىّ أبعد ما يكون عن فكرى فى تلك المرحلة المبكرة، ولكن فجأة ذهبت أمى وأخذت معها كل حنان الدنيا، ذهبت أمى وذهب معها إحساسى بالدفء والأمان، رحلت أمى وأحسست بأن الدنيا فارغة من حولى وكلها خواء بعد أن كانت مجتمعة فى حضن أمى، وكيف لا؟ وبعد موت الأم ينزل ملك من السماء ينادى: «يا ابن آدم لقد ماتت من كنا نكرمك من أجلها». وتلقفنى أبى رحمة الله عليه وأنا أسقط نحو الهاوية، وكان دائماً ما يخاطب عقلى وقلبى، وأخذنى فى حضنه وقال لى: لقد عشت فى حضن أمك وأبيك لستة عشر عاماً، وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً، وماتت أمه وعمره ست سنوات، فإن كانت أمك قد ماتت فلتعلم أنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له، ويمكن لأمك أن تحصل على الثلاثة لو اجتهدت وحققت أملها ورغبتها فى أن تصبح طبيباً وعالماً ينتفع الناس بعلمك لأنها سبب وجودك، وتهب لها صدقة جارية، وتنشد طريق الصلاح لكى يتقبل الله دعاءك لها، والبِرُّ بالوالدين يا بنىّ يمتد إلى ما بعد الحياة بالاستغفار لهما، وإنجاز ما أحدثاه من عهد لم يتمكّنا من الوفاء به، وكذلك أن نصِلَ الرحم التى لا تُوصَل إلا بهما من قرابة الأب والأم، ونَصِلَ كذلك أصدقاءهما وأحبابهما ونودهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يودّ صاحبات السيدة خديجة رضى الله عنها وكان يستقبلهن ويكرمهن.. وكانت هذه الكلمات من والدى -رحمه الله- هى طوق النجاة الذى أنقذنى من الهوة السحيقة التى كدت أن أسقط فيها بعد وفاة أمى رحمها الله. أتذكر هذا الحوار فى كل عام عندما يأتى عيدك يا أمى الحبيبة، أتذكرك وأنظر إلى كل ابن أو ابنة ما زالت أمهما أو أبوهما على قيد الحياة ولا يعرفان كيفية برهما والإحسان إليهما لكى يدخلاهما الجنة، وأريد أن أمسك بهذا الابن العاق وأهزه بعنف لكى يستفيق قبل فوات الأوان ويفقد أغلى ما على الأرض، فيفقد معهما الدنيا والآخرة، فهناك كبيرتان يعجل لصاحبهما العذاب فى الدنيا دون انتظار لعذاب الآخرة وهما: البغى أى الظلم، وعقوق الوالدين «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً» الإسراء: 23. وكما يقول فضيلة الإمام الشعراوى رحمه الله فى تفسير هذه الآية: لقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين فى آيات كثيرة، قال تعالى: «واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً» النساء: 36. وقال: «قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً.. » الأنعام: 151. وقال: «وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً» العنكبوت: 8. والحق سبحانه وتعالى حينما يوصينا بالوالدين، مرة تأتى الوصية على إطلاقها، كما قال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً.. » الأحقاف: 14، ومرّة يُعلِّل لهذه الوصية، فيقول: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ..» لقمان: 14. والذى يتأمل الآيتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العِلّة فى بِرِّ الوالدين، والحيثيات التى استوجبت هذا البِرّ، لكنها خاصة بالأم، ولم تتحدث أبداً عن فضل الأب، فقال: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ.. » لقمان: 14. فأين دَوْر الأب؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية الأبناء؟ المتتبع لآيات بر الوالدين يجد حيثية مُجْملة ذكرت دور الأب والأم معاً فى قوله تعالى: «كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً..» الإسراء: 24. لكن قبل أن يُربّى الأب، وقبل أن يبدأ دوره كان للأم الدور الأكبر؛ لذلك حينما تخاصم الأب والأم لدى القاضى على ولد لهما، قالت الأم: لقد حمله خِفّاً وحملتُه ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعتُه كرهاً، لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالأم؛ لأنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج؛ ولأنها حيثيات سابقة لإدراك الابن فلم يشعر بها، فكأنه سبحانه وتعالى أراد أنْ يُذكّرنا بفضل الأم الذى لم ندركه ولم نُحِسّ به، وذلك على خلاف دور الأب فهو محسوس ومعروف للابن، فأبوه الذى يوفر له كل ما يحتاج إليه، وكلما طلب شيئاً قالوا: حينما يأتى أبوك، فدَوْر الأب إذن معلوم لا يحتاج إلى بيان.