فى منتدى عن «الهوية الإيرانية» عُقد يوم الأحد 8 مارس، قال على يونسى، مستشار الرئيس حسن روحانى لشئون القوميات والأقليات المذهبية ما نصه: «إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهى مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما فى الماضى»، وتلك إشارة تاريخية إلى عهد الإمبراطورية الفارسية الساسانية التى مدت سيطرتها على العراق وجعلت من المدائن عاصمة لها. هذا التصريح الفج الذى أورده البيان رقم 1061 لهيئة العلماء المسلمين كان موضع تنديد واسع النطاق من جهات مختلفة ما أدى -وكما هى العادة- إلى أن تخرج تصريحات رسمية تدفع بسوء التأويل. وهكذا تم الدفع بالقول إن الإشارة إلى «حضارتنا وثقافتنا وهويتنا» مقصود بها ما يتصل بالإسلام لا بالفارسية، وكأن الإمبراطورية التى وردت الإشارة التاريخية لها لم يكن لها محتوى قومى عرقى، عموماً هذا التصريح هو حلقة جديدة من سلسلة تصريحات لا تكف إيران من خلالها عن استعراض عضلاتها السياسية والعسكرية فى عدد من أهم الساحات العربية، وخصوصاً الساحة العراقية، ومن ذلك تصريح على شمخانى أمين مجلس الأمن القومى الإيرانى بأن «العراق حكومة وشعباً بات أقرب إلى إيران من قبل، وبات يذعن بأن إيران عمقه الاستراتيجى «وهو ما انتقدته بشدة هيئة علماء المسلمين فى بيانها رقم 1042. إذن، هناك خط عام تعبر عنه هذه التصريحات الإيرانية المتتالية، ورغم ذلك، فإن ثمة ملاحظات أساسية على تصريح على يونسى، أولها أنه يبدد الوهم الذى يساور البعض عن الحدود الفاصلة بين الإصلاحيين والمتشددين الإيرانيين فيما يخص قضايا الأمن القومى. وذلك أن «يونسى»، المستشار الحالى للرئيس الإصلاحى حسن روحانى كان من قبل وزيراً للاستخبارات فى ظل الرئيس الإصلاحى أيضاً محمد خاتمى، فإذا كانت هذه التصريحات تجسد الانفتاح على الجوار العربى، فما نوع التصريحات التى تنسف محاولات التقارب؟ الملاحظة الثانية أن هذا التصريح يعبر أكثر من غيره عن طبيعة التوغل العسكرى الإيرانى فى الأراضى العراقية لمواجهة تمدد تنظيم داعش، ففى يوم 4 مارس تحديداً أى قبل ثلاثة أيام من تصريح يونسى عبرت عشرات الدبابات الإيرانية الحدود العراقية فى طريقها إلى مناطق القتال فى محافظة صلاح الدين، وكانت تؤمن لها الطريق ميليشيات ما يسمى بالحشد الشعبى، والمفارقة أنه على حين شغل المحللون بإدانة التصريح فإنهم لم يلتفتوا إلى الواقع الذى يستند إليه. فكم منا سمع عن الطائرات العسكرية الإيرانية التى تحط يومياً فى مطار بغداد محملة بالأسلحة والذخائر؟ كم منا شاهد قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس وهو يقوم بجولاته الميدانية المكوكية من ساحات المعارك فى العراق إلى ساحات المعارك فى سوريا؟ معنيون أكثر نحن بما يخرج من أفواه المسئولين الإيرانيين، أما ما ينطلق من مدافعهم فأقل ضجيجاً وإن كان تأثيره مدمراً. كتب علينا أن ننحشر بين مطرقة داعش وسندان إيران، فتوزع أكثرنا بين الطرفين ليختار منهما من يحمى مصالحه ومذهبه، قليلون جداً هم من يتكلمون عن دور عربى فى مواجهة داعش وإيران معاً. الملاحظة الثالثة أن تصريح «يونسى»، كما أورد بيان هيئة العلماء مطولاً تفاصيله، قد فتح النار على الجميع. اتخذ موقفاً هجومياً وتمنطق بسلاح القوة العسكرية وذكر ما نصه: «سندافع عن كل شعوب المنطقة، لأننا نعتبرهم جزءاً من إيران، وسنقف بوجه التطرّف الإسلامى والتكفير والإلحاد والعثمانيين الجدد والوهابيين الجدد والغرب والصهيونية». تحتاج الإمبراطورية الإيرانية كى تمكن لمشروعها التوسعى أن تواجه كل المشروعات البديلة بما فى ذلك مشروع الخلافة الإسلامية بصيغتيه الداعشية والعثمانية، ومع أنه ليس ثمة مشروعاً للملحدين فى المنطقة على حد علمى، إلا أن «يونسى» فيما يبدو يتعهد بتأديب شعوب المنطقة، فإيران لن تحارب الدواعش لحساب الملحدين هذا ما يريد أن يقوله. أما الحديث عن مواجهة الغرب فأمر يستحق التوضيح، لأنه فى هذا الوقت بالتحديد يجرى التنسيق على قدم وساق بين إيران والغرب بهدف التوصل إلى اتفاق إطارى حول قضية الملف النووى. الملاحظة الرابعة والأخيرة ترتبط بتطورات المحادثات النووية التى تمثل السياق الدولى لتصريح يونسى. واهم من يتصور أن إيران سوف تجمد تخصيب اليورانيوم مقابل رفع العقوبات، استطاعت إيران كل تلك السنين أن تتحايل على العقوبات الأمريكية والدولية بل وحققت إنجازات مدهشة رغم وجودها، استأنفت برنامجها النووى عام 1992 فى ظل الرئيس (الإصلاحى) محمد خاتمى، احتلت العراق جنباً إلى جنب مع القوات الأمريكية، أدارت حرب سوريا وجعلت من لبنان ظهيراً لها، وصلت إلى اليمن وأصبحت شوكة فى خاصرة شبه الجزيرة العربية، فما الذى يرغمها إذن وهى فى ذروة قوتها الإقليمية على أن تجمد التخصيب إلا أن يكون المقابل إضفاء الشرعية الدولية على هذه القوة -والعراق - فى القلب منها؟ إن متابعة الخلاف المحتدم داخل الولاياتالمتحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين من جهة، وبين أوباما ونتنياهو من جهة أخرى يتجاوز بكثير مسألة مصير الملف النووى الإيرانى إلى مصير منطقة الشرق الأوسط كلها. لم يخطئ «يونسى» حين تحدث عن الإمبراطورية الإيرانية التى تتشكل تحت سمعنا وبصرنا، ويجب أن نعترف له بالفضل، لأنه يحذرنا من يوم نجد فيه أنفسنا جزءاً من إمبراطورية ولاية الفقيه، ويكون عماد المقاومة فيها إرهابيى داعش.