الشعيرة هى العلامة، مأخوذة من الإشعار الذى هو الإعلام، أو الراية. وإذا أضيفت الشعيرة إلى الله تعالى فهى من معالم دينه. ومن ذلك ما أورده القرآن الكريم بعد الأمر بالحج من قوله سبحانه: «ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» (الحج: 32). ومع أن الحج من شعائر الله وأركان دينه وكان من الطبيعى أن يكون نسكه تبتلاً فى علاقة عبادية محصورة بين العبد وبين ربه دون أن يكون لها أى تأثير إنسانى فإن الله تعالى أبى أن يقطع عبده عن الإنسانية حتى فى أوقات الشعائر الدينية فجعل من شعائره جانباً إنسانياً لا ينفك عن الجانب التعبدى أو الدينى لتأكيد الحقوق الإنسانية التى أغفلها كثيرٌ من الناس باسم الدين افتراءً عليه لما يأتى: أولاً: أن الدين الإسلامى قد أنار بصيرة الناس بحقوقهم الإنسانية وأنها لا تتعارض مع حق الله العبادى، ومن يفتعل هذا التعارض يستحق التنكيل والتقريع؛ فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) نكل برجال من المسلمين أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال، فقال: «لو تأخر لزدتكم» كالمنكل بهم حين أبوا. وأخرج الشيخان عن أنس فى قصة الثلاثة رهط الذين تقالّوا عبادة النبى (صلى الله عليه وسلم). فقال لهم: «أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتى فليس منى». ويمدح الإسلام الذين يقدمون حق الإنسان على حق الله فقد أخرج البخارى عن أبى قتادة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إنى لأقوم فى الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبى فأتجوز فى صلاتى كراهية أن أشق على أمه». ثانياً: أن الدين الإسلامى يبرأ ممن يظلم الحق الإنسانى أو ينقصه ولو كان ذلك لصالح شعيرة تعبدية، ووصف أولئك بالمفلسين والفاتنين والمغالين والمتشددين والمعذبين لأنفسهم بدون فائدة، فقد أخرج مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن المفلس من أمتى يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتى قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النار». وأخرج الشيخان عن جابر أن معاذ بن جبل صلى بقومه العشاء فقرأ بسورة البقرة، فقال النبى (صلى الله عليه وسلم): «يا معاذ أفتان أنت؟ اقرأ والشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، ونحوها». وأخرج النسائى وابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «يا أيها الناس إياكم والغلو فى الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو فى الدين». وأخرج أبوداود بسند فيه مقال عن أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم». وأخرج الشيخان عن أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لرجل يمشى: «إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغنى» وأمره أن يركب. ثالثاً: أن الدين الإسلامى جعل تعظيم الحق الإنسانى والوفاء به من أسمى مراتب العبادات التطوعية، فقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار». رابعاً: أن الدين الإسلامى جعل إكرام الحق الإنسانى سبيلاً لمغفرة الذنوب الدينية وليس العكس، فلا يستطيع المسلم الذى ظلم غيره أو انتقصه أن يتوب بالاستغفار والذكر والصلاة والصيام والحج والعمرة فمهما أكثر من تلك العبادات فلن يغنيه ذلك شيئاً أمام إساءته للآخرين. بخلاف العكس فإن من ظلم الحق الدينى أو انتقصه يمكنه أن يتوب أو أن يغسل ذنوبه تلك بالإحسان إلى الآخرين من البشر عن طريق حسن المعاملة أو إعانة المحتاجين أو التصدق على المعوزين؛ فأخرج الطبرانى عن أبى هريرة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن من الذنوب ذنوباً لا تكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة». قالوا: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: «الهموم فى طلب المعيشة». وللحديث بقية.