فى حياتى امرأة.. اقتادَتْنى من سكون الطفولة وتشتُّت الصبا إلى اتزان الكبار وتمرُّس الحكماء، تعلمتُ منها أضعاف ما أتخمَتْنِى به الكتب وأكثر مما دوَّنتُ وراء أساتذتى، أفكارها فى بساطتها أعمقُ مما حوى عقل فيلسوف متأدب أو أديب فيلسوف، وحنانها محيط أطلسى. أمى.. عرَّفْتِنى إلى حرف الألف ومغزاه، وتعانق الحاء والباء.. بياض شعرك ملابس إحرام فى ليلة مستجابة الدعاء، وابتسامتك فيها اتساع الفضاء على المجهول.. انفتاح الخيال على أفق لم يُطرَق.. حكاية زمردية فى سماء زرقَتُها تَنْهشُ ليلة ظلماء.. إطلالة شمس صباح صبوح يداعب إشعاعها كوباً من القهوة الطازجة.. أنتِ عندى رائحة الفكرة البكر، ولون القدر، وهبوب نسمة تنعش ولا تنتهى!! يغيب عقلى حين يغيب فلا يذهل عن انتظار أطلتِه وراء الباب حين تأخرتُ أمازح أصحابى، وصبرِك على نيران موقد يتلعثم تعدين وجبتى الساخنة، وحكايةٍ مضحكة لما استبد بى يأس المذاكَرة، وبسمة أمل عندما أحاطتْ بى وساوس القهر ولبسَتْنِى عباءة اليأس.. وكلمة تشجيع جعلتنى أقطع نصف مشاقّ الطريق، وتربيتةٍ أمكَنَتْنِى من قطع نصفه المتبقى. هكذا أمى -أيها السادة- جزيرة حنان حين يزبد بحر بائس، دوحة دفء فى صحراء عمر أرتجل خطواتى فيه.. أسلمَتْنِى لزوجتى خالياً من الرعونة، فكانت (زوجتى) خاليةً من العناد، وذكَّرتْنى بحقها علىَّ، فتعلمَتْ وحدها حقى عليها، وعلمَتْنِى أن المرأة (أىَّ امرأة) لا تريد من الرجل غيرَ صبرٍ ينفقه عليها، وابتسامةٍ يُلقيها لها، ولو حتى كما يلقى ملابسه المتسخة، فحاولتُ.. وتسلَّمَتْ منى طفلىَّ الصغيرين لتعيد سيرتها الأولى وتربى من جديد، تحدوها غبطة أنها تربينى أنا مرةً ثانية! أمى.. لأن الكلام بطبيعته جامح لا يُسلِم مثلى قيادَه، ومحدودية اللغة تقدح زناد أفكار من رحم العدم غير أنها لا تولد.. ولأن لسانى سقيم ثقيل.. فتقبلى منى هذه «الشخبطات» عربون وفاء.. فقط عربون وفاء.. لا أكثر.