لطالما كنت أتعجب عندما أقرأ الحديث الشريف عن «ابن مسعود»: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجمع أحدكم فى بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يأمر الله ملَكاً فينفخ الروح فيه»، متفق عليه. إذن فنفخ الروح لا يتم إلا بعد أربعة أشهر من الحمل (16 أسبوعاً)، فكيف إذن يتحرك هذا الجنين، وينبض قلبه، ويمص أصابعه؟ فعند 6 أسابيع (شهر ونصف الشهر) يبدأ ظهور جذور الرجلين، وعند 7 أسابيع يبلغ طول الجنين 2سم ويمكنه أن يحرك يديه ويبدأ تكوين الأصابع وحركتها وكذلك الأعضاء الداخلية مثل الكبد وعدسة العين والأعضاء التناسلية وعظام الجمجمة، وعند 8 أسابيع (يعنى شهرين) يبدأ تكوين عظام القدمين والغضاريف، وعند عشرة أسابيع يتحرك الجنين ولكن لا تشعر الأم بحركته، ويبدأ ظهور الأذن، وعند 12 أسبوعاً (3 أشهر) يظهر الحبل السُّرى الذى يربط الجنين بأمه ويتغذى من خلاله، وعند 14 أسبوعاً يشبك يديه ويمص أصابعه، وعند 15 أسبوعاً يكتمل تكوين الأعضاء الحسية والأعصاب. كل هذا من مظاهر الحياة التى يعتقد معظمنا أن الروح هى مصدرها، مع أنه لم تُنفخ فيه الروح إلا بعد 16 أسبوعاً من الحمل! والحقيقة أن محاولة الإجابة عن هذا السؤال دفعتنى إلى محاولة البحث والقراءة فى ماهية الروح، ولعل البداية المنطقية لكى نجيب عن هذا التساؤل أن نحاول أن نصيغه بأسلوب آخر: هل الروح حقاً هى سر الحياة على الرغم من وجود حياة بالفعل فى الجنين بمقاييسنا الطبية، حتى قبل نفخ الروح فيه حسب الحديث؟ والإجابة التى استراح لها عقلى بعد كثير من القراءات هى ما ذكرها الدكتور أحمد شوقى إبراهيم -رحمه الله- فى كتابه «أسرار النوم: رحلة فى عالم الموت الأصغر»، التى يقول فيها: «إن الروح ليست سر الحياة، فسر الحياة سابق على نفخ الروح، وسر الحياة بالجسم يحمله كل من الحيوان المنوى والبويضة، وبالتالى تحمله البويضة الملقحة والنطفة الأولى منذ اليوم الأول للحمل، وسر الحياة هذا مستمد من النفس الواحدة الأولى التى قال عنها المولى عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1)، وهى النفس التى خلقها الله فى آدم وجعل فيها سر الحياة فى الجنس البشرى كله. ويستمر سر الحياة فى جسم الإنسان كله حتى وفاة الجسم، وينتقل هذا السر أثناء حياته إلى ذريته من خلال أمشاج الذكر والأنثى فى الحيوان المنوى والبويضة، ونجد ذلك فى قول الله -عز وجل: {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} (السجدة: 7)، إذن فسر الحياة خُلق مع الخلق الأول، وينتقل من إنسان إلى إنسان، وإذا تُوفِّى الجسم خرج منه سر الحياة، ويعود الجسد إلى التراب الذى خلق منه». والحقيقة أننى وجدت معقولية فى هذا التفسير، خاصة مع التطور العلمى الذى يمكننا من أخذ نواة خلية بشرية فى المعمل، ووضعها فى بويضة مفرغة من جيناتها الوراثية، لتبدأ فى تكوين خلايا جنينية، إما أن نزرعها فى رحم الأم لعمل استنساخ كامل، أو أن نأخذها كخلايا جذعية يمكن توجيهها لتكون خلايا قلب ينبض، أو خلايا كبدية، أو خلايا عصبية... إلخ، فهذه الخلايا بها سر الحياة، فهى خلايا حية وتؤدى وظائفها ولكن لا توجد بها روح، فبعد حوالى 5 ساعات من تكون البويضة الملقحة -وهى الخلية الإنسانية الأولية الحاوية على 46 كروموسوماً- تتقدر الصفات الوراثية التى ستسود فى هذا المخلوق الجديد والصفات التى ستتنحى فلا تظهر عليه، بل يمكنها أن تظهر فى بعض أولاده أو أحفاده (مرحلة البرمجة الجينية)، ثم بعد ذلك تنقسم البويضة الملقحة انقسامات سريعة دون تغير فى حجمها، متحركةً من قناة «فالوب» (الواصلة بين المبيض والرحم) باتجاه الرحم، حيث تنغرس فيه كما تنغرس البذرة فى التربة، وبوجود الخلية التى تحمل هذا العدد من الصبغيات يتحقق الوجود الإنسانى ويتقرر به خلق إنسان جديد، لأن جميع الخطوات التالية ترتكز على هذه الخطوة وتنبثق منها، فهذه هى الخطوة الأولى لوجود المخلوق الجديد. لكنه بعد لم تُنفخ فيه الروح كما يخبرنا الحديث الشريف إلا بعد أربعة أشهر، وتلك هى مرحلة التقدير (البرمجة الجينية)، وقد أشار القرآن إلى هاتين العمليتين المتعاقبتين (الخلق والتقدير) فى أول مراحل النطفة الأمشاج فى قوله تعالى: {قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَره * مِنْ أىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ * من نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فقدَّرَهُ} (عبس: 17-19).