ظنت أنها النهاية، وكادت أن تستسلم لمواجهة مصير مجهول، ولكن للمشاعر حسابات أخرى، فبينما كانت تقضي الأم ساعات طويلة من الليل تصارع آلام المرض وتناجي الله بصوت خفي على سجادة الصلاة، كان القدر ينسج لها خيوطا من الفرح بأيدي أبنائها الستة دون أن تدري، لتبدأ من هنا بداية مقاومتها للتليف الذي أصاب كبدها، والنجاة من شبح السرطان، بعد ان عرفت مع أبنائها طريق الأمل وبات كل عسير يسيرًا في أعينهم. قبل أربعة أعوام من الآن، خرجت الأم «ماجدة الشربيني» من عيادة الطبيب المعالج لها بعينين دامعتين بعد أن شخص حالتها ب«تليف في الكبد» حيث أدركت حينها أنها البداية لرحلة معاناة طويلة نهايتها إما النجاة أو الوفاة بالمرض، لتطرق أبواب العيادات الخاصة والمستشفيات بحثًا عن علاج يمنع حالتها الصحية من التدهور. «استمرت سنتين على الأدوية وعند لحظة معينة الدكتور حذرنا من إن التليف ممكن يتحول لورم خبيث، وكان العلاج الوحيد هو زراعة للجزء التالف من الكبد»، تقول ابنتها روعة مجدي، في بداية حديثها ل«الوطن» عن رحلة علاج والدتها، التي وصلت إلى محطة تبرعها بفص كبدها الأيمن إلى والدتها، دون أن تعلم الأخيرة. وتشير الابنة إلى فترة ما قبل التبرع، لافتة إلى مناقشات سرية دارت بينها وبين أشقائها الخمسة في سبيل البحث عن متبرع من بينهم بجزء من كبده لوالدتهم، دون علمها بما يحدث من خلفها، فالكل كان ملتزما بالعهد، ويترددون على معامل التحاليل كل يوم لإنهاء الفحوصات المطلوبة لاختيار المتبرع الأنسب، «عملنا التحاليل اللي مطلوبة وطلعت أنا وأخويا أحمد أكتر اتنين متطابقين لحالة والدتي»، وبحسب تعبير الدكتورة روعة، التي تعمل مساعد باحث في مركز بحوث الصحراء، انتهى الأمر باختيار الأطباء لها بدلا من شقيقها، «أخويا طلع عنده نسبة دهون أعلى على الكبد وأنا 10% بس دهون وسهل تنزل بنظام غذائي معين». عينات «روعة» تطابقت مع والدتها خمسة أشهر من الالتزام التام بالنظام الغذائي الذي وضعه الأطباء للابنة الثلاثينية، سعيًا منها للتخلص من نسبة الدهون الزائدة على الكبد والوصول إلى 0% دهون، حيث تغلبت عزيمتها على شهوتها للطعام، حتى نجحت في بلوغ الهدف، كل ذلك دون إبلاغ الأم الستينية بما يحدث، «كنا بنروح نعمل التحاليل من وراها ومفهمينها إن في دوا جديد وبنروح نتابع مع الدكتور»، حتى اكتشفت الأم حقيقة الاتفاق السري الذي عقده أبنائها بمحض الصدفة، «مرة كانت معايا في المستشفى وسبتها قاعدة وروحت أعمل تحاليل لحد ما سألت وعرفت الحقيقة». رفض الأم ومحاولات استمرت شهرين لإقناعها وفي بداية معرفة الأم بخطة أبنائها، رفضت الأم المريضة بشكل التام مقترح أبنائها، بتبرع أحدهم لها بجزء من كبده، كأي أم تتأذى لرؤية جرح في إصبع أحد أبنائها فكيف تتحمل جرح غائز يترك ندبة مستديمة في جسد ابنتها؟ لكن «بعد شهرين من الرفض التام ومحاولات إقناعها بإن التبرع مش هيكون فيه أي خطورة على حياتي وافقت» ولولا سماعها لكلام علمي من الأطباء يؤكد لها سلامة ابنتها لما وافقت. «الشدة كاشفة» هكذا انطبقت المقولة على زوج «روعة» الذي ساندها في رحلة تبرعها لوالدتها، بعد أن أكد له الأطباء هو الآخر عدم خطوة تلك الخطوة الشجاعة على حياة زوجته، واستعدت الأسرة لموعد العملية المنتظر في السادس والعشرين من ديسبمر الماضي، بعد أن تم تأجيله من قبل بفعل أزمة كورونا في الموجة الأولى من الوباء. دقات الساعة أعلنت الثامنة صباحًا، وكانت الأم وابنتها على موعد في غرفة العمليات بما فيها من أدوات وأجهزة يرهبها الكبير قبل الصغير، حيث حملهما الأطباء على سرير تجره عجلات سريعة حتى حال بينهما وبين أسرتهما باب كبير، لتقضيا معًا ساعات طويلة داخل العمليات، وصفتها«روعة» بأنها استمرت أكثر من 12 ساعة، من الثامنة صباحًا حتى التاسعة مساء. وبالنسبة للأبناء في الخارج، كادت عقارب الساعة أن تتوقف في كل لحظة، حتى خرجت الأم وشقيقتهم من العمليات، واستفاقا من أثر البنج على آلام مبرحة، اضطرت الابنة لتحملها بعد منعها من المسكنات القوية لخطورتها، «قعدت شهر مستحملة الآلام دي وبحتسب ده عند ربنا المهم أمي تكون بخير وسطنا»، تقول الابنة بنبرة فرح. أسبوعان كاملان قضتهما الإبنة في المستشفى لاستكمال تعافيها من العملية الجراحية، والتزمت بعدها بتوصيات الأطباء لها في النظام الغذائي، «قالولي اهتمي بالبروتينات وممنوع السكريات الكتير»، ليستعيد الكبد الجزء المفقود منه بمرور الوقت. نحو شهران مرا على العملية الجراحية، تعافت فيهما الأم والإبنة وعادت الأمور إلى طبيعتها، بحسب تأكيد الإبنة، «دلوقتي مفيش أي تعب حاسة بيه ووالدتي بتتحسن وبنتابع مع الدكتور كل أسبوع».