رحل محمود سلطان، خبر تناقلته وكالات الأنباء والصحف والفضائيات، لكنه بالنسبة لتلاميذه -وأنا أتشرف بأننى منهم- لم يكن خبراً عادياً، فهو لم يكن بالنسبة لنا شخصاً عادياً أو مذيعاً أو قارئ نشرة فقط، «سلطان» كان -رحمة الله عليه- مدرسة كاملة بكل ما تحمله من معنى. فى البدء كانت الكلمة، و«سلطان» كان يعرف قيمة الكلمة، لم يكن أبداً يتحدث إلا عن قيمة المبدأ والحق والخير والجمال، تراه عملاقاً بتواضعه، يمشى فى طرقات مبنى الإذاعة والتليفزيون بابتسامته الطيبة، متحدثاً ببساطة مع الجميع بنفس الخلق والأدب والتواضع، من أصغر عامل بوفيه وحتى الوزير. بعد نجاحى فى اختبارات المذيعين بدأت رحلة التدريب على الإلقاء وقراءة النشرة والمصطلحات السياسية فى الإذاعة المصرية، وكان ل«سلطان» فضل كبير علىّ أثناء هذه المرحلة، على قدر تواضعه وعلمه ودماثة خلقه، لم يكن يجامل أحداً فى العمل، كان يقول المدح والتشجيع لمن يستحق، وكنت واحدة من المئات من مدرسة محمود سلطان، تلك المدرسة التى تترك بصمة بهدوء دون صراخ ولا تشنج ولا صوت عالٍ ولا غرور. «سلطان» الهادئ دائماً والشامخ بخلقه، كان يقول لنا لا تجلدوا أُذن المستمع والمشاهد بالصوت العالى والصراخ، واجعلوا البسمة عنواناً لوجهكم، واقتربوا من المشاهد كأنكم أحد أفراد أسرته، ولا تتعالوا على المشاهد، وإياكم والغرور فهو يقتل المذيع ويضعه فى برج عاجىّ بعيداً عن المشاهد فيتهاوى ويأفل نجمه سريعاً. مدرسة «سلطان» هى السهل الممتنع، فكلما كنت بسيطاً متواضعاً كثر أعداؤك واعتبروك ليناً أو سهل الكسر، لكنه كان حاسماً على قدر بساطته وتواضعه، لم يسعَ أبداً إلى منصب ولم يتملق أو ينافق أحداً ليصبح من المرضى عنهم. أتذكر أولى المرات التى قرأت فيها عناوين النشرة فى إذاعة الأخبار (راديو مصر حالياً) كنت معه فى التدريب فى الاستوديو، وقبل الهواء بدقائق دربنى على العناوين والأخبار كعادته، وجاءت لحظة الهواء، ودقت الساعة معلنة التاسعة مساء، وفوجئت به يقول على الهواء، نشرة التاسعة تقرأها عليكم جيهان منصور ومحمود سلطان! وأشار لى بيده لأقرأ العناوين، وسط ذهولى ومفاجأتى وتشجيعه وتطمينه لى، كنت أقرأ ودقات قلبى أعلى من صوتى، لكنه شجعنى بابتسامته الطيبة واحتوانى، فتجاوزت خوفى وانطلقت مستندة إلى العملاق «سلطان» الذى منحنى هذا الشرف العظيم. علمنى «سلطان» ألا أتكبر على العمل مهما كان، وكان يقول لنا: إذا كنتم تعتبرونى أحد رواد قراءة نشرة الأخبار فى مصر، فإن برنامج «عالم الحيوان» الذى أقرأ التعليق عليه، هو ما جعلنى الأشهر، لأنه ربطنى بكل الفئات العمرية من الأطفال إلى الشباب إلى كبار السن. وفعلاً فمَن منا لم يكن ينتظر كل يوم جمعة بعد الصلاة وحديث «الشعراوى»، برنامج «عالم الحيوان» بصوته العذب وبساطة وتلقائية تعبيراته، وهذا الدرس الذى تعلمته منه، صحيح أنه فى عرف الإعلام فإن قارئ النشرة ومقدم البرامج السياسية هو الأعلى مرتبة بين المذيعين والأكثر صعوبة حتى إن «سلطان» حاز نجمة سيناء عن عمله فى تغطية انتصارات أكتوبر، لكن البرامج الأكثر شعبية هى الاجتماعية والعلمية مثل «عالم الحيوان». رحل محمود سلطان جسداً، لكنه ترك لنا تراثاً خالداً من أعماله القيمة، وبصمة محترمة فى عالم الإعلام، ومدرسة هى الأرفع والأرقى بين مدارس الإعلام، فما أحوجنا الآن إلى تلك المدرسة وسط انحدار وهبوط مستوى اللغة والأداء بين بعض الإعلاميين، ممن يتخذون الشاشة والميكروفون منصة لإطلاق القذائف والسب والشتائم وتشويه الناس ونشر الأكاذيب وعمل «سبوبة» ومصالح على قفا المشاهد، وربما لم يتحمل «سلطان» العملاق بتواضعه هذا العبث الإعلامى فرحل عن عالمنا، لكنه سيبقى دائماً رمزاً خالداً فى عقولنا وقلوبنا ومدرسة إعلامية لن تتكرر.