ليس كل ما يُكتب يستحق عناء القراءة، لكن عندما يتعلق الأمر بمذكرات جنرال في المخابرات السوفيتية "كي جي بي"، ظل يحرس زعيم الدولة العظمى الأشهر ليونيد بريجنيف 14 عامًا، ثم خليفته ميخائيل جوباتشوف آخر زعماء الاتحاد السوفيتي الذي انهار فجأة على يديه.. إذًا فالأمر يستحق. الكتاب لا تنقصه الإثارة، فقد ركز فيه مؤلفه الجنرال فلاديمير ميدفيديف، على الأسرار والتفاصيل الدقيقة في حياة زعماء إحدى القوتين الأعظم في تاريخ البشرية الحديث، وسقطاتهم الأخلاقية. ويروي الكتاب كيف نجا بريجنيف من محاولة اغتيال على بعد أمتار من مكتبه في"الكرملين"، عندما ارتدى ضابط مفصول زي رجل شرطة وأفرغ خزنتي رصاص من مسدسه على سيارة الزعيم أثناء نزوله منها، لكن القدر أنقذه. "ميدفيديف" يسرد ببراعة وبالوقائع كيف تتمكن زوجات الزعماء من تسيير أمور مهمة قد تحول مسار سياسات الدولة العظمى دون أن تدري؛ الكتاب ممتع، لكن كل هذه المتعة لم تكن لتصل إلى قراء العربية لولا ترجمة الدكتور نبيل رشوان، العالم بالشأن السوفيتي، الذي نقل بأسلوب روائي سلس كل ما كتبه جنرال ال"كي جي بي" بلغة عربية سهلة، فعندما تقرأ نص الكتاب الصادر باللغة الروسية في 1994 لا تشعر بالاغتراب، ولسان حالك يقول: "كأن ميدفيديف مولود في شبرا أو السيدة زينب". يتتبع المؤلف حياة الزعيم بريجنيف الخاصة، منذ فترة فتوته وعلاقته بزوجته فيكتوريا، مرورًا بمرحلة النضج وصولًا إلى الشيخوخة وأمراضها، وكيف أنهم اضطروا إلى كسر باب دورة المياه لإخراج بريجنيف منها بعد أن غلبه النعاس وهو يقضي حاجته. الأمر نفسه يتكرر مع آخر زعماء الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف وزوجته رايسا، والذي يصفه المؤلف بالممثل البارع الذي تفوق في الكذب على سابقيه، فانهارت الدولة العظمى على يديه بسبب رعونته، بعد أن رافقه ميدفيديف 6 سنوات رئيسًا لحراسته الخاصة. في كتابه "حكم العواجيز.. اللحظات الأخيرة في حياة الاتحاد السوفيتي"، يقول ميدفيديف في الفصل الأول بعنوان "صباح الحرية العابث" راصدًا يوميات أحداث 19 أغسطس 1991 التي سقطت فيه الإمبراطورية، واستولى يلتسين على السلطة، "علاقة الشعب بالقادة مقياس واضح، إذا كانت علاقته ببريجنيف حتى في أسوأ أعوام حكمه يشوبها السخرية والاستهزاء، فإن علاقة الشعب بجورباتشوف كان سمتها العداوة والضغينة والحقد، و19 أغسطس أصبح تتويجًا لصراع وصل مداه بين ديكتاتوريتين: الشيوعية والشيوعية السابقة". الطبعة العربية هي الأولى للكتاب، وأصدرتها دار الثقافة الجديدة، وتقع في 222 صفحة، تبدأ بتقديم كتبه الدكتور رفعت السعيد رئيس مجلس أمناء حزب التجمع اليساري بعنوان :"لماذا"، ثم مقدمة المترجم الدكتور نبيل رشوان، و19 فصلًا تجيب على السؤال العريض: لماذا سقط الاتحاد السوفيتي فجأة، ولم تسقط الاشتراكية؟، وتأتي الإجابة الحبلى بالتفاصيل: "إنه حكم العواجيز". نعم.. سقط "الاتحاد السوفيتي"، العرين الأكبر للاشتراكية، لكنها ما زالت تحكم بقيمها الإنسانية وأهمها العدالة الاجتماعية، الصين ومعظم بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينية حتى الآن، لأن أفكار النظرية جددت شبابها، فيما الاتحاد السوفيتي قتله "العواجيز"، الذين حكموه حتى الموت. حتمًا قرأ فلاديمير بوتين، زعيم روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي، هذا الكتاب بلغته الأصلية، وربما احتفظ بنسخة منه داخل مكتبته ليعود إليها ليأخذ العبر والدروس، ويتلاشى أخطاء الماضي، فإعادة مجد الإمبراطورية الروسية ليس بالأمر الهين في ظل تحديات عالمية عاصفة، خاصة أن مؤلف الكتاب زميل سابق للرئيس بوتين في ال"كي جي بي". لكن.. إذا كان الأمر كذلك مع الرئيس الروسي؛ أليس أولى بالنخبة المصرية الحاكمة هى الأخرى أن تقرأ هذا الكتاب جيدًا؛ فحكم العواجيز قاد مصر إلى كارثة.