في الوقت الذي بلغت فيه الاضطرابات ذروتها في تركيا الصيف الماضي، كان الغاز المسيل للدموع يغطي ساحة "تقسيم" في إسطنبول، بينما كان أطباء يحاولون معالجة المصابين في مستشفيات ميدانية مؤقتة. لذلك قامت مجموعة من الأطباء بمحاولة الحصول على إغاثة من مستشفى قريب وتحول بعضهم لمواجهة قوات الشرطة التي كانت على بعد أمتار قليلة. وقالت الطبيبة إنتشلاي إردوغان، متطوعة أثناء احتجاجات "جيزي"، لأسباب أمنية وكإجراء احترازي، غادر نحو عشرين منا -وكلنا أطباء ونرتدي معاطفنا الطبية- المنطقة. وأضافت: "قلنا المكان الأقرب هو مستشفى تقسيم للإسعافات الأولية. دعونا على الأقل نحتمي في المستشفى، سيكون الوضع آمنا هناك. كلنا العشرون طبييا كنا نرتدي معاطفنا البيضاء المكتوب عليها غرفة إسطنبول الطبية. وبينما نحن في طريقنا (إلى المستشفى)، أطلقت الشرطة قنابل الغاز علينا مباشرة". وخلال مقابلات أجريت مع أكثر من عشرة أطباء على مدى ثلاثة أشهر، وضعت "أسوشيتد برس" صورة أكثر وضوحا لقيام السلطات التركية بتضييق الخناق على العاملين في المجال الطبي أثناء وبعد الاحتجاجات المناهضة للحكومة الصيف الماضي. وزعم الأطباء أن السلطات اعتدت عليهم عمدا بقنابل الغاز المسيل للدموع، وطاردت وضربت المتظاهرين في المستشفيات الميدانية، وضغطت عليهم للكشف عن أسماء مصابين وتجاهلت دعوات للسماح بدخول المزيد من الأدوات الطبية وسيارات الإسعاف. وقال الأطباء إنهم كانوا يخفون بعض المصابين أثناء الحملة القمعية العنيفة ضد المعارضة والتي قوضت سمعة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان كمصلح ديمقراطي. وقالت وزارة الصحة التركية، في بيان ل"أسوشيتدبرس": "الادعاء بتقصير السلطات في توفير الخدمات الطبية خلال الاحتجاجات أمر غير عادل". واعترف العديد من الأطباء، بعضهم تحدث في مقابلات، بالتعاطف مع المحتجين وبعضهم شارك في احتجاجات بدون الزي الطبي عندما كانوا لا يعالجون المصابين. وفي أواخر مايو وأوائل يونيو الماضيين، تظاهر مئات الآلاف من الأتراك في الشوارع للمطالبة بمزيد من الحريات الديمقراطية في احتجاجات اندلعت في البداية بسبب معارضة خطط الحكومة لتطوير حديقة جيزي في إسطنبول. وأطلقت الشرطة مدافع المياه والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع واعتدت بالضرب على المتظاهرين بالهراوات، مما أدى إلى سقوط آلاف الجرحى ومقتل خمسة أشخاص. وتسبب إطلاق قنابل الغاز من مسافات قريبة في سقوط عدة إصابات ومقتل شخص، رغم أن الأطباء الذين يقولون إنهم استهدفوا بهذه الطريقة لم يصابوا بجروح خطيرة. وقال الأطباء إن الشرطة أطلقت قنابل الغاز على المستشفيات الميدانية أثناء قيامهم بمعالجة المصابين. وفي الثاني والعشرين من يونيو الماضي، أطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع من خلال فتحة في باب المستشفى الميداني، وفقا للأطباء وبينهم إنتشلاي أردوغان، وهي طبيبة متطوعة في لجنة حقوق الإنسان التابعة للجمعية الطبية التركية، فرع إسطنبول. واستدعت "أردوغان"، وهي ليست من أقارب رئيس الوزراء، لمعالجة شاب أصيب بجروح خطيرة في صدره بمستشفى ميداني، لكنها قامت باستدعاء الإسعاف. وقالت "أردوغان": "كان يمكن أن يتوقف عن التنفس. استدعينا سيارة إسعاف له. في تلك اللحظة، في هذه الساعة، بات الوضع هادئا. لم تكن هناك احتجاجات، الشوارع باتت خاوية. اتصلنا برقم النجدة 112 مرارا وتكرارا ولم تأت أي سيارات إسعاف مطلقا. وقلنا لهم 'لا تقلقوا. الطرق مفتوحة، لا توجد مشكلة. الوضع هادئ. أنتم على بعد ما بين 100 إلى 200 متر، يمكنكم بسهولة أن تأتوا لتأخذوا المريض'. لكنهم لم يأتوا". وفي نهاية المطاف، ساعدت "أردوغان" أطباء آخرين في حمل المصاب إلى سيارات أجرة أتت به إلى المستشفى. وتم تجاهل المطالب المتكررة لوزارة الصحة بزيادة الموارد الطبية في مناطق الاحتجاج، وخاصة سيارات الإسعاف، وفقا للجمعية الطبية في إسطنبول. وبدلا من ذلك، وصل أطباء إلى المستشفيات وكانت خدمات الإسعاف التي تديرها البلديات في المدينة تعمل بشكل مستقل. وقالت وزارة الصحة إن المتظاهرين ألحقوا أضرارا بتسع سيارات إسعاف كانت متمركز في "جيزي بارك". وتتعارض الوثائق، التي أطلعت عليها "أسوشيتدبرس" وكان بينها لائحة اتهام للادعاء ضد طبيب وطالب بكلية طب، تتعارض بشكل صارخ مع مزاعم الحكومة في بيان أرسلته ل"أسوشيتدبرس"، قالت فيه إنها لن تتخذ أي إجراء ضد العاملين في المجال الطبي الذين قاموا بمعالجة المحتجين. وتتهم لائحة الاتهام، الصادرة بتاريخ السادس من ديسمبر، الطبيب والطالب، اللذان قاما بمعالجة محتجين داخل مسجد دولما بخشة في إسطنبول، بانتهاك القانون التركي. ويتهم الادعاء الرجلين بإلقاء قمامة وسجائر داخل المسجد. كما يتهمون الطبيب والطالب برفض تقديم معلومات عن المحتجين وحماية مجرمين وتقديم مساعدة طبية غير قانونية للمحتجين. وتبلغ العقوبة في حالة إدانتهما بهذه الجرائم بالحبس لمدة عام. وفي رد لوزارة الصحة عما إذا كان الادعاء يتعارض مع بيانها ل"أسوشيتدبرس"، قالت الوزارة في تصريح ثان، إنها لا تستطيع التعليق على شأن قضائي حالي. وقال أطباء آخرون إنه تم إبلاغهم أنهم سيخضعون للتحقيق بسبب مساعدتهم للمحتجين. فيراي كايا، طبيبة أطفال تعمل بمستشفى حكومي، تطوعت لعلاج المصابين خلال الاحتجاجات وساعدت في جمع بيانات المصابين. لكنها قالت إنها تلقت إشعارات، اطلعت "أسوشيتدبرس" على أحدها، بأنها قيد التحقيق لدى وزارة الصحة. ويطلب أحد الخطابات الموجهة لها من إدارة المستشفى تفسير سبب قيامها بفحص أحد المحتجين الذي نقل إلى غرفة الطوارئ بعد إصابته بعبوة غاز مسيل للدموع، بينما يطلب خطاب ثان منها تفسيرا لقيامها بإقامة مستشفيات مؤقتة. وجاء في الخطاب "هل عملت أم لا في هذه المستوصفات التطوعية؟". وقالت "كايا" ل"أسوشيتدبرس": "فعلت هذا لأنني طبيبة. كانوا يحتاجون إلي هناك (في منطقة الاحتجاجات). وهذا ما تعلمته من ذلك: أينما يكون هناك مصابون، أو أشخاص يتألمون أركض للتخفيف عن ألمه (أو ألمها)، ولهذا السبب اخترت هذه المهنة". وقال أطباء آخرون، طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم خشية تعرضهم لإجراءات انتقامية، إنهم تلقوا خطابات مشابهة. وكانت وزارة الصحة قد وجهت خطابا في الثالث عشر من يونيو الماضي، اطلعت عليه "أسوشيتدبرس"، طلبت فيه من الجمعية الطبية أسماء الأطباء الذين عملوا في المستشفيات المؤقتة والمرضى الذين خضعوا للعلاج. لكن الجمعية رفضت تقديم هذه المعلومات. ويقول أطباء إن الجمعية استعدت الحكومة عندما قامت بإنشاء هذه المستشفيات. وقال الدكتور علي تشركيز أوغلو، الأمين العام لفرع الجمعية الطبية في إسطنبول، والذي احتجز بسبب مشاركته في الاحتجاجات: "قالوا لنا أشياء مثل 'ليس لديكم سلطة. ليس لديكم حقوق، ليس لديكم سلطة للتداوي (المرضى). هل حصلتم على إذن مننا؟' أو، أصدروا بيانات مثل 'أعطونا أسماء الأطباء الذين قدموا الرعاية وأسماء المرضى الذين عولجوا' وكان إرسال مفتشين للتحقيق معنا نتيجة لهذا الموقف (الحكومة تعتبر الأطقم الطبية كأعداء)". وتأتي ملاحقة الأطباء والمسعفين بينما يدرس الرئيس التركي عبد الله جول، التوقيع على قانون أقره البرلمان التركي الأسبوع الماضي، قال منتقدون إنه يمنح الحكومة سلطات جديدة لملاحقة الأطباء لقيامهم بتقديم رعاية طبية غير مصرح بها. وينص التشريع على فرض غرامات وأحكام بالحبس تصل إلى ثلاث سنوات لمن يقوم بعلاج مرضى من دون تصريح من وزارة الصحة باستثناء الحالات الطارئة غير المتوقعة حتى تأتي الرعاية الطبية المصرح بها. ويمنع القانون بشكل خاص إنشاء عيادات مؤقتة من دون تصريح حكومية. وقال "تشركيز": "من المستحيل قبوله (مشروع القانون) إنه ضد المبادئ العالمية وضد القيم الأخلاقية تماما". وانتقد مقرر الأممالمتحدة الخاص بالحق في الصحة مشروع القانون الشهر الماضي، وحث النواب الأتراك على إعادة النظر به. كما أدانت الجمعية الطبية العالمية مشروع القانون.