كان موقف على بن أبى طالب مختلفاً أشد الاختلاف عن موقف كل من طلحة والزبير، فقد عُرضت الخلافة على كل من طلحة والزبير -كما سبق وأشرنا- لكنهما خافا من حمل الأمر فى مثل هذه الظروف، ولما قبلها على بن أبى طالب تحولا إليه يطلب كل منهما ولاية مصر من الأمصار التى يعلم أنها تحتشد بزخم من التأييد له. يحكى صاحب «البداية والنهاية»: «أن طلحة والزبير دخلا على علىّ ومعهما جماعة من صحابة النبى (صلى الله عليه وسلم) وطلبوا منه إقامة الحدود، والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه بالجنود، وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة ليأتيه منها بالجنود، ليقوى بهم على شوكة هؤلاء الخوارج وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم فى قتل عثمان (رضى الله عنه)، فقال لهما: بل تكونان عندى أستأنس بكما». لقد ربط الصحابيان الجليلان ربطاً متعسفاً بين المطلب السياسى بالولاية والمطلب الدينى الخاص بإقامة حد الله على قتلة عثمان. وكان رد الخليفة على المطلب السياسى واضحا حين قال لهما: «بل تكونان عندى أستأنس بكما». لقد أراد علىّ أن يسير فى المسلمين سيرة عمر بن الخطاب فى منع الصحابة من الانطلاق فى الأمصار؛ بسبب النتائج الخطيرة التى ترتبت على هذا المسلك السياسى الذى ساد عصر عثمان، أما المطلب الدينى المتعلق بإقامة الحد على قتلة عثمان، فقد رد عليه على بن أبى طالب رداً واقعياً أفهمهم فيه أن الحكمة تقتضى تأجيله لحين استقرار الأمور وإحكام السيطرة على البلاد والعباد. بعدها لم يلبث كل من طلحة والزبير إلا قليلاً حتى استأذنا علياً فى الخروج للاعتمار وكان هدفهما الأساسى من وراء ذلك الانضمام إلى الحزب الذى بدأ يتشكل فى «مكة» لمناهضة حكم على بن أبى طالب. بدأ هذا الحزب فى حشد المؤيدين له منذ العودة من موسم الحج، وشيوع الخبر بمقتل عثمان ومبايعة على (رضى الله عنهما). يشير صاحب البداية والنهاية إلى أنه: «لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق كان أزواج النبى (صلى الله عليه وسلم)، أمهات المؤمنين، قد خرجن إلى الحج فى هذا العام، فرارا من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قُتل أقمن بمكة بعد ما خرجوا منها ورجعوا إليها وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتحسسون الأخبار». وقد سار إليهم طلحة والزبير كما ذكرنا بذريعة الاعتمار، وتبعهما خلق كثير وجمع غفير. وفى المدينة كان على بن أبى طالب يحاول ندب مَن فيها للخروج معه لقتال أهل الشام فأبوا عليه، فطلب عبدالله بن عمر، وحرضه على الخروج معه، فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال فى هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة. وقدم إلى مكة أيضا فى هذا العام يعلى بن أمية من اليمن، وكان عاملا عليها لعثمان، ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وقدم لها عبدالله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين، فقامت عائشة (رضى الله عنها) فى الناس تخطبهم، وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتأت به أولئك من قتله فى بلد حرام، وشهر حرام، ولم يراقبوا جوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة». ومن الملفت أن موقف السيدة عائشة من المطالبة بالثأر لعثمان يتناقض مع موقفها السابق منه، حين كانت تحرض الناس ضده وتدعو إلى خلعه، ويذكر «ابن الأثير» صاحب «التاريخ الكامل» واقعة شديدة الدلالة فى هذا السياق يشير فيها إلى أنه «لما كانت عائشة بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بنى ليث يقال له عبيد بن أبى سلمة، فقالت له: مهيم؟ قال: قُتل عثمان وبقوا ثمانيا. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة على. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردونى ردونى! فانصرفت إلى مكة وهى تقول: قُتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً (الشيخ الأحمق) فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولى الأخير خير من قولى الأول»!