«من ناصر... لمرسى» تصدمنا الحقائق.. تدهشنا البديهيات.. لأننا ببساطة لا نرى الوجه الخفى.. الولاياتالمتحدة تشن حرباً شعواء على شعب مصر، لأنه أطاح برئيس الجمهورية.. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهورها كأعظم قوة دولية، كانت مُلامِسَة لكافة التغييرات التى تمت فى الرئاسة المصرية.. مؤيدة، أو رافضة، محرضة، أو شريكة.. اقتراب لافت يعكس الحلم الأمريكى فى التحكم بمن يجلس على مقعد الرئاسة بمصر.. قلب الشرق الأوسط ومفتاح أى تغير فيه. أولاً: الرئيس عبدالناصر.. الحلم الأمريكى بمجرد نجاح الثورة المصرية صبيحة 23 يوليو 1952، توجه ممثل لمجلس قيادتها إلى السفير الأمريكى جيفرسون كافرى، وأبلغه رسالة بأن «النظام القديم قد سقط، وأن النظام الجديد يستهدف تحقيق الأمانى الوطنية للشعب المصرى». عبر مايلز كوبلاند، ضابط المخابرات الأمريكى، فى كتابه «لعبة الأمم»، عن الحلم الأمريكى فى أن يكون الرئيس المصرى تابعاً لهم، فادعى كذباً أنهم شكلوا فى مارس 1952 لجنة برئاسة كيرمت روزفلت مسئول الشرق الأوسط بالمخابرات لوضع خطة الثورة المصرية، وأن روزفلت عقد عدة لقاءات مع عبدالناصر قبل إطاحته بالملكية. وثائق الخارجية الأمريكية عن عام 1952 عندما أفرج عنها أكدت أنها فوجئت بالثورة، كما أن تيم واينز فى كتابه الوثائقى «إرث من الرماد.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA» الصادر 2009 أكد أنها «فوجئت بالثورة رغم أن عدد ضباطها بالسفارة الأمريكية بالقاهرة أربعة أضعاف عدد الدبلوماسيين» كما أشار لمحاولة إغراء عبدالناصر بالمساعدة فى إنشاء محطة إذاعة قوية، ودعم نظامه ب3 ملايين دولار، وحصاره بشبكة من العملاء الذين قام ناصر باعتقالهم، وأقام برج الجزيرة بجزء من الدعم.. نصباً تذكارياً للفشل الأمريكى فى مصر. ثانياً: أنور السادات.. التصفية بعد فشل الحصار عام 2005 صرحت هدى عبدالناصر بأن السادات قتل والدها لحساب CIA مشيرة لما تضمنته بعض الوثائق الأمريكية من أنه كان عميلاً لCIA، نفس الاتهام وجهه حسين الشافعى نائبه السابق بإشارته إلى ما ورد فى «الواشنطن بوست» من أنه كان يتقاضى 5 آلاف دولار شهرياً.. تخرصات ليس لها أساس من حقيقة. عندما تولى السادات السلطة 1970 كانت العلاقات مع الولاياتالمتحدة مقطوعة، ومكتب CIA يعمل من قسم رعاية المصالح الأمريكية بالسفارة الإسبانية.. لم يحاولوا تكرار تجربة الاقتراب من السادات على نحو ما تم مع ناصر، اكتفوا باكتساب ثقته فأبلغوه بمؤامرة تستهدفه، قام على إثرها ب«ثورة التصحيح» 15 مايو 1971، مبادرات السادات للسلام لم تكن وليدة ارتباط بأجهزة أو دول كما أساء البعض تفسيرها، لكنها نبعت من توجه وطنى انحاز للتسوية تخلصاً من استنزاف الحروب.. وشعبيته لدى الرأى العام الأمريكى مرجعها تقديرهم لبراجماتيته، أما حقيقة تعاونه مع الولاياتالمتحدة فقد شابته صعوبات خفية بسبب انحيازه للوطن وقدرته السياسية على المناورة والخداع. استعصى مقعد الرئاسة عليهم، فحاولوا حصاره بالاقتراب من أشرف مروان مستشار السادات للمعلومات، وتخيلوا أنهم -بالتعاون مع الموساد- قد نجحوا.. فقد قدم لهم معلومات بالغة السرية كجزء من عملية خداع مهنى مخابراتى متطورة وبارعة، أشرف مروان رجل المخابرات المصرى كان حصان طروادة الذى شارك فى نصر أكتوبر 1973، والذى ردت الدولة المصرية على محاولات تشويه سمعته بعد اغتياله 2007 بتأكيد «أنه كان وطنياً مخلصاً وقام بالعديد من الأعمال الوطنية ولكن الوقت لم يحن لكشفها». السادات بعد إنجازه لاتفاقية كامب ديفيد، توالت تحذيرات CIA من استهدافه بمعرفة التنظيمات الدينية المتطرفة، فكلفها عام 1980 بتدريب حرسه الخاص، الذى كانت تدربه إحدى وكالات الأمن الخاصة «كابوتشى كوربوريشن» التى يمتلكها Edd Wilson ضابط المخابرات السابق.. نيل ليفنجستون أحد كبار المسئولين بالوكالة وصف برنامج التدريب الذى نفذته CIA بأنه برنامج هواة، ولمح إلى أن لدى CIA اعتبارات ومصالح متعارضة تنعكس عادة على مستوى مهنية برامجها التدريبية!!! ثالثاً: حسنى مبارك.. فساد دون خيانة عينه السادات نائباً 1975 وسط شائعات بأن ذلك تم بضغوط أمريكية.. جوزيف ترينتو الباحث المتخصص فى أنشطة المخابرات أشار فى كتابه «قتل السادات» إلى أن «مبارك كان عميلاً أمريكياً يتقاضى مكافأة من CIA».. نفس ما رددوه عن السادات من ادعاءات مغلوطة، تعبير عن الحلم الأمريكى فى دفع أحد عملائهم لمقعد الرئاسة.. هذا الزعم وجد قبولاً نتيجة تورط مبارك فى أعمال فساد ارتبطت بصفقات الدعم العسكرى لمصر، وامتدت للداخل بالطبع.. وعلى ضوء ما ورد بكتاب Bob Woodward الكاتب الصحفى -مفجر فضيحة ووترجيت- الصادر 1987 عن الحروب السرية للمخابرات الأمريكية Veil، فقد دفع مبارك منير ثابت لمكتب المشتريات التابع للملحقية العسكرية بواشنطن، ليلحق به أبوغزالة كملحق عسكرى، ويكوِّنا مع مبارك وحسين سالم شركة White Wings Corporation التى أصبحت الناقل والمورد الرئيسى للأسلحة لمصر، وللمجاهدين الأفغان.. ارتكبت الشركة مخالفات أدانتها المحاكم الأمريكية، فقرر رئيس الأركان أحمد بدوى سحب أبوغزالة بحجة تعيينه مديراً للمخابرات الحربية يونيو 1979.. لكنه لم ينفذ سوى بعد 6 شهور بتشجيع مبارك، حتى يستكمل فصل مكتب المشتريات عن الملحق العسكرى الجديد، مايو 1980 عين بدوى وزيراً للدفاع وأبوغزالة رئيساً للأركان، مارس 1981 تولى أبوغزالة وزارة الدفاع بعد أن استشهد بدوى و13 من القادة فى حادث سقوط طائرة مريب لم ينج منه سوى طاقمها!! فى أبريل 1989 طلبت المحكمة الأمريكية استجواب أبوغزالة فسحبه مبارك من المشهد وعينه مستشاراً!! أغسطس 1981 كلف السادات مبارك بتفعيل دوره كمنسق لأنشطة أجهزة الأمن لمواجهة تصاعد المعارضة، لكنه تزرع باستحالة ذلك فى وجود الفريق الماحى رئيساً للمخابرات العامة، الذى أشار فى تقرير متابعة لإحدى زيارات مبارك لواشنطن إلى بعض المقابلات التى وجد السادات تقرير مبارك عن المأمورية خالياً من ذكرها، وعندما سأله اعتذر لسقوطها سهواً فغضب الرئيس وجمد نشاطه لفترة، لكنه عندما عاد تخلص من الماحى بتعيينه محافظاً للإسكندرية. مبارك عومل معاملة الرؤساء خلال زيارته لواشنطن قبل 48 ساعة من مشاركته فى احتفالات أكتوبر 1981 التى اغتيل فيها السادات، الذى كان قد روى لحرمه بأنه شعر خلال زيارته الأخيرة لواشنطن سبتمبر 1981 بأنهم يريدون التخلص منه.. فترة حكم مبارك شهدت تطوراً للتعاون بين أجهزة المخابرات لكنه لم يتجاوز القواعد المهنية بدليل محاولة حصار مبارك بعدد من رجال CIA (على رأسهم د.يوسف بطرس غالى..) واستمرار حرب المخابرات (إعلان مصر خلال الثمانينات عن قضية تجسس د.سامى يوسف إبراهيم واصف المزدوج الجنسية- إعلان CIA عن القبض على د.عبدالقادر حلمى فى قضية الكربون الأسود). رابعاً: عمر سليمان.. المرشح المرفوض نصحت CIA عمر سليمان صراحة بعدم الترشح للرئاسة 2012 لأنه كرجل مخابرات يستحيل عليها الاقتراب المهنى منه بهدف السيطرة، كما أن خبرته الأمنية يصعب معها حصاره من خلال معاونيه، ثم إن هناك ملفات يكاد يكون هو الوحيد القادر على التعامل معها (التصدى لوصول الإخوان لمقعد الرئاسة- تتبع أموال أقطاب النظام السابق المهربة للخارج- استغلال إسرائيل لبئرى غاز مصريين بشرق المتوسط- قدرته على التعامل مع موضوع سد «النهضة»..) كان المجلس العسكرى أيضاً رافضاً لترشحه!! وجاء استبعاده -بغض النظر عن السيناريو أو الجهة المسئولة- ليؤكد أن CIA كانت قادرة خلال تلك الفترة على التأثير بقوة فى القرار السياسى. خامساً: رئاسة مرسى.. والانتصار الأمريكى تفريغ الاتصالات الهاتفية فى قضية التخابر بين مرسى وأحمد عبدالعاطى قبل الثورة -والتى نشرتها «الوطن» 28 أكتوبر 2013 وحللها الزميل مصطفى بكرى- يؤكد أن المخابرات الأمريكية قد نجحت -لأول مرة- فى تحقيق حلمها بأن يحتل أحد عملائها مقعد الرئاسة فى مصر.. سأقتنص منها الاعترافات الصريحة: ■ تساؤل مرسى عما إذا كان ضابط CIA الذى قابله بالقاهرة هو الذى يقابله أحمد عبدالعاطى فى تركيا، وعندما نفى عبدالعاطى سأله عما إذا كانت لديه فكرة بأن زميلاً له حضر للقاهرة وقابله من عدمه. ■ تأكيد عبدالعاطى بأنهم يأتمرون بتعليمات CIA بإشارته لمحاولة إقناعهم بضرورة الموافقة على مشاركة الإخوان فى الثورة حتى لا تتجاوزهم الأحداث. ■ انتقاد مرسى ضعف مستوى مكتب CIA فى تركيا كقناة اتصال مع الإخوان، وعندما رد عبدالعاطى بأنها الوحيدة المفتوحة مع CIA أكد مرسى أن لهم قناة أخرى مع أبوالفتوح. ■ تساؤل عبدالعاطى عن إمكانية وجود قناة للحوار مع إسرائيل، رد مرسى بأن الأمريكيين سألوهم من سنة حول إمكانية ذلك وردوا بالموافقة. هذه التسجيلات تمت من21-26 يناير 2011 بإذن من النيابة العامة، فجر 27 يناير تم اعتقال مرسى وآخرين، وأرفقتها مباحث أمن الدولة ببلاغها إلى المستشار هشام بدوى المحامى العام لنيابات أمن الدولة العليا طالبة إذن القبض فى قضية تخابر وتجسس لصالح دولة أجنبية بما يهدد الأمن القومى للبلاد، صدر أمر القبض، وتحدد 29 يناير موعداً لبدء التحقيق بعد استكمال أمن الدولة لبعض المعلومات التى طلبتها النيابة.. معنى ذلك أن دليل الإدانة فى قضية التخابر كان موجوداً لدى الداخلية ونيابة أمن الدولة العليا، رغم ذلك لم يُعَد القبض على مرسى.. لم تتم تسوية وضعه.. لم تعترض أى جهة أمنية على توليه رئاسة الحرية والعدالة.. قبلت لجنة الانتخابات ملف ترشحه.. هل كان متضمناً صحيفة الحالة الجنائية فتكون الداخلية جاملت جاسوساً؟! أم كان خلواً منها وتكون اللجنة هى التى جاملته؟! ما حقيقة موقف المجلس العسكرى منه فى ضوء ما تسرب من وثائق عن تفضيله كرئيس تجنباً «لإحراق مصر»!! هل هناك «عيب إجراءات» بالقضية (القبض قبل تصريح النيابة) وهل هذا يبرر السماح لجاسوس بتولى مقعد الرئاسة؟! هذا واحد من أخطر الملفات المسكوت عنها.. الصمت بشأنه مشاركة فى الجريمة.. حققت CIA حلمها بدفع أحد عملائها لمقعد الرئاسة فى مصر.. ثم مارست التهديد والضغوط معتمدة على من يدعمون موقفها بالحكومة وخارجها وينادون بمصالحة خبيثة مع من لا يزالون يمارسون الإرهاب ضد الشعب والجيش والشرطة ومصالح الدولة. عبدالناصر.. الوطنية تحصين ضد الخيانة، السادات.. براعة المناورة منحتهم الأمل وعندما فقدوه قتلوه، مبارك.. استعداد مبكر للفساد.. تربح من معاناة الوطن.. وشبهات تتعلق بجرائم تصعيد لشركاء، وتخلُص من شرفاء، وتصفية لمنافسين.. أمور ملتبسة تتطلب التحقيق.. لكن من شاركوا فى فساد عصره هم من حاكموه فاختاروا أوهن الاتهامات، مرسى.. تعبير صريح عن انتصار تاريخى حققته CIA غير أن الشعب فى 30 يونيو أجهضه.. ما ظهر من جرائم خيانة فى عصره مجرد قمة لجبل ثلج.. محاسبة من تستروا التزام حتمى مهما تأخر.. الشعب ينشد العدل.. والوطن يطالب باستحقاقاته.