تتجلى سماحة النفس الكبيرة تماما فى تعامله صلى الله عليه وسلم حين مكنه الله جل وعلا من رقاب المشركين، ووقفوا جميعا بين يديه ومصيرهم فى حروف تخرج من بين شفتيه، ولو أمر بتلك الرقاب أن يطاح بها ما عابه أحد، لكن صاحب القلب الكبير يقدم للبشرية لونا آخر من التصرف حين سألهم: «ما تقولون؟ وما تظنون؟»، قالوا: نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم -قالوا ذلك ثلاثا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقول كما قال يوسف: ﴿لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين﴾»، فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا فى الإسلام. أخرجه البيهقى. وفى رواية أنه قال لهم حين اجتمعوا فى المسجد: «يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟»، قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، صلى الله عليك يا رسول الله. بل أكثر من هذا، بعد أيام من فتح مكة وإطلاق هؤلاء المشركين، خرجوا معه فى غزوة حنين، وفتح الله عليه وأعطاه غنائم لا حصر لها، فجعل ينادى على هؤلاء الذين استمرت عداوتهم له عشرين سنة، ولم يسلموا إلا من أيام قليلة، ويتوسع فى إعطائهم، لدرجة أن بعض الأنصار وجد فى نفسه، فقال لهم، فيما أخرجه البخارى: «إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإنى أردت أن أَجْبُرَهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟». ولما قال رجل من الأنصار: والله إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، تغير وجهه صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى قد أوذى بأكثر من هذا فصبر»، ولم يزل النبى يرضيهم حتى بكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا. ولو ذهبنا نستقصى أحواله صلى الله عليه وسلم فى حسن التعامل مع خصومه والمسيئين إليه لطال بنا المقام، لكنى أردت أن نقف على طرف من هذا الهدى الأغر لصاحب هذا القلب الكبير. أليس جديرا بنا ونحن نؤسس لدولة الحق والعدل والكرامة الإنسانية أن نستحضر تراثه، وأن نشيع هذه القيمة فى مجتمعنا الجديد، وأن ندعو إلى مزيد من الصفاء النفسى والتصالح الاجتماعى حتى نتمكن من إقامة مشروع النهضة بروح جديدة؟