قبل عشرين عاماً من اليوم كنت فى مصر.. عاد أبى فى ذاك اليوم من المستشفى العسكرى يتأبط مظروفاً بنياً كبيراً فيه أشعة عاجلة أجراها. سحبتُها بفضول لأنظر فيها، لكنى لم أرَ أى صورة لأشعة ولا يحزنون، بل مجموعة كبيرة من الشرائح القاتمة كبيرة الحجم بلا أى تفاصيل. لَّما سألته عن الأمر مستغرباً، احتار أبى أيضاً؛ لأنه لم ينتبه ولم يفهم السبب، فقد حمل الأشعة من المستشفى كما هى وعاد للبيت، ليقدمها لطبيب آخر متخصص فيما بعد. فى اليوم التالى ذهب أبى إلى هذا الضابط الصغير الذى أجرى الأشعة مستفسراً عن الخطأ. فقال له الضابط: «إنها أوامر عليا يا أفندم!». ثم أكمل: «حاولت، أمس، بالتليفون أثناء وجود سيادتك، الاتصال بالرتبة الكبيرة المسئولة هنا وإعلامها بأن الجهاز عطلان، لكنه صرخ فىَّ بحدة وعصبية وشتمنى لأنفذ الأوامر، فخرست واضطررت للتنفيذ وأعطيتك المطلوب. يؤسفنى ذلك، فلا حيلة لى أمام هذه الأوامر!». استعدت هذه الحكاية اليوم وأنا عائد من زيارة إحدى قريباتى فى مستشفى نمساوى فى مدينة صغيرة جداً. استفسرت وأنا هناك عن الأجهزة الرئيسية والأجهزة الاحتياطية الموجودة والصيانة وأنا أرى قدسية المريض والعناية الفائقة به. تذكرت حكاية أبى وسرحت متخيلاً هذا الكم من الأوامر الذى يسيِّر المؤسسات المدنية والعسكرية من أشخاص من المفترض أن يكونوا إداريين ناجحين وأصحاب قرارات صائبة، لكنهم يهتمون بالمركز والرتبة والمنظر لا الجوهر، الأوامر لديهم أهم من النتائج. والعيب فى النهاية سيكون جزاءات من أعلى إلى أسفل تتدحرج حتى تبتر آخر وأضعف حلقة فى السلسلة باعتبار هذا الأخير هو المخطئ والمستحق للعقاب ويبقى المسئول مختالاً بالتباهى! ما زالت كلمة «رجل مسئول» كلمة منحرفة عن معناها؛ فالمسئولية فى عرف الناس تُفهم على أنها سلطة وجبروت وأوامر، يخشاها المرءوس ويتباهى بها المسئول، مع أن كلمة مسئول تعنى ببساطة التعرض للسؤال والمساءلة وتحمُّل العبء وليس الاستمتاع بوجاهة المنصب! المصيبة أن كثيراً من المسئولين متأكدون بيقين لا شك فيه أن قراراتهم دائماً مصيبة!