يحدأين مصر مما يحدث اليوم فى سوريا؟ بل أين مصر مما ث فى العالم العربى كله اليوم؟ سوريا العزيزة، التى جمعتها يوماً مع مصر «الجمهورية العربية المتحدة»، والتى لها فى قلب كل مصرى مكانة خاصة مثلما يحمل كل سورى لمصر حباً وتقديراً، تتمزق اليوم بين خطرين ماحقين: الخطر القائم بالفعل، وهو النظام الفاشى والقاسى لبشار الأسد، الذى يحصد بجيشه وعملائه كل يوم آلاف الأرواح من الشعب الشقيق تمكيناً لحكمه المستبد، والخطر المحتمل الذى يلوح فى الأفق، وهو أن يرث نظام الأسد -إن سقط- نظام مستبد آخر لا يقل قسوة وبشاعة، يستبدل بالاستبداد الطائفى المقيت استبداداً دينياً أشد مقتاً وخطراً. ولا تلوح فى الأفق دلائل على أن قوى المعارضة الديمقراطية تستطيع بمفردها هزيمة «بشار» وجيشه، فكانت النتيجة أن نزح ملايين السوريين خارج بلادهم؛ إلى لبنان والأردن ومصر وتركيا... إلخ. وأذكر أننى عندما كنت فى مدينة «رأس البر» فى عطلة «شم النسيم» فى أبريل الماضى، وكنت خارجاً لتوى من أحد المطاعم، لحق بى طفل من العاملين بالمحل ليعيد لى كيساً تركته بالمحل، قائلاً بصوته البرىء: «يا حاج، يا حاج، لقد نسيت هذا الكيس»، ونظرت إلى الطفل فوجدته فى نحو العاشرة من عمره، ذا وجه أبيض مشرق، فسألته عن اسمه فعرفت أنه ابن أحد «اللاجئين السوريين الفقراء» الذين وصلوا إلى دمياط ورأس البر، مثلما وصل غيرهم من كل الطبقات إلى كل أنحاء مصر من أقصاها إلى أقصاها، وهم يعلمون أنهم مرحب بهم، وقد أخذوا يعملون فى كل المجالات، أو يقيمون مشروعاتهم، خاصة للأكلات السورية الشهيرة. لكن هذه «الضيافة» المصرية لبعض اللاجئين السوريين تبدو حتى الآن وكأنها هى فقط الإسهام المصرى الملموس فى حل الأزمة بل المحنة السورية! حقاً، هناك تصريحات وإعلانات تصدر بين الفينة والأخرى عن المسئولين المصريين أو وزارة الخارجية، ولكن ما أقصده هنا أن «الأزمة السورية» هى الآن بين يدى القوى «الكبرى» فى العالم، وبخاصة الولاياتالمتحدة، ويشاركها فرنسا وبريطانيا من ناحية، ويعارضها روسيا والصين من الناحية الأخرى. أما العرب والجامعة العربية ومصر فهى تصدر إعلانات وبيانات، ولكن الفعل لن يكون لهم! إننى أعتقد أن هذا الغياب المصرى والعربى الفاعل هو أمر مشين، وفى الواقع فإن الإسهام العربى الآن يبدو بائساً ومقصوراً على بعض الدول التى ترفع صوتها بتشجيع «الضربة» ضد سوريا، بل وسوف تفتح مطاراتها لتسهيل تلك الضربة، وربما أيضاً خزانتها لتمويلها، مثل السعودية وقطر. وهناك -فى المقابل- دول أخرى تعترض على ذلك، فى مقدمتها الأردن ولبنان، لأنهما -بداهةً- سوف تكونان على رأس المتضررين من تلك الضربة، إذ سيتدفق عليهما مئات الألوف من اللاجئين زيادة على مئات الألوف الذين وفدوا إليهما بالفعل، ويشكلون على اقتصاداتهما ومجتمعيهما أعباء لا شك فيها! أين الصوت المصرى فى تلك الضوضاء الكبرى؟ إنه للأسف ضعيف وخافت بالرغم من الجهود الكبيرة التى تبذلها وزارة الخارجية المصرية وجهازها الدبلوماسى المتميز. ولكنى أعتقد يقيناً أن القضية أكبر من ذلك بكثير، وهى قضية «سياسية» قبل أن تكون «دبلوماسية»، وتتعلق بأوضاع مصر وإمكانياتها ودورها المحتمل. الحقيقة الأساسية هنا هى أن مصر، وبعد ثورتها العظيمة فى 25 يناير 2011، انكفأت على ذاتها، وغرقت فى شئونها الداخلية! فانتقلت من الثورة ضد نظام «مبارك» ومؤامرة التوريث إلى الانتفاضة ضد «المجلس العسكرى» وإدارته السيئة لشئون البلاد، إلى الثورة -فى 30 يونيو- على الحكم الإخوانى الفاشل. هو إنجاز ثورى عظيم بلا شك، وفى فترة قياسية، وبتكلفة معقولة، بالقياس إلى ما حدث فى أحداث مشابهة فى العالم، ومع التقدير والاحترام الكامل لدماء الشهداء وأرواحهم الطاهرة وآلام آلاف الجرحى والمصابين. مصر اليوم مشغولة، بعد نجاحها العظيم فى القضاء على «النظام القديم» بكل صوره السلبية، ببناء نظام ديمقراطى عصرى حقيقى، وفق «خريطة طريق» توافقت عليها قواها السياسية، برعاية ودعم قواتها المسلحة. غير أننى أعتقد بقوة أن على مصر أن تسارع فور إنجاز مهامها تلك لتعود إلى ممارسة «دورها» المنتظر منها. مصر دولة لها دور ولها رسالة! وإذا كانت بعض الاتجاهات أو التيارات فى مصر ترى أن على مصر أن تنكفئ على ذاتها، وأن تغلق أبوابها، وتتفرغ لبناء نفسها منعزلة عن العالم من حولها، فإننى -على العكس- أرى أن أداء مصر لدورها الخارجى، هو -فى الواقع- أحد أهم أدوات وآليات قوتها الداخلية! مصر المنكفئة والمحصورة داخلياً تضعف وتذبل، ولكن مصر المنفتحة والمتجهة خارجياً تزدهر وتنتعش! إن نظرة واحدة للأعوام الأخيرة لتاريخ مصر المعاصر لا تخفى دلالتها: هل ينكر أحد أن مصر فى عهدها الملكى كان لها دورها الريادى الثقافى الذى لم تنافسها فيه أى دولة عربية أخرى؟ ألم تكن مصر مقصداً لكل المبدعين والمثقفين العرب، خاصة من المشرق العربى؟ ألم تكن مصر هى التى تزعمت الدفاع عن القضية الفلسطينية منذ أواخر الثلاثينات؟ ألم تكن مصر هى التى رعت -بدعم من بريطانيا، نعم- إنشاء جامعة الدول العربية فى مؤتمر أنشاص برعاية الملك فاروق؟ ألم تكن مصر «عبدالناصر» صاحبة دور ورسالة للاستقلال الوطنى والوحدة العربية، وكان «عبدالناصر» وهو بعدُ فى ريعان شبابه مدركاً ل«الدور» المصرى ليس فقط عربياً، وإنما أيضاً أفريقيا، وإسلامياً، وفق ما صرح به فى «فلسفة الثورة»؟ ومرة أخرى، وبرغم كل المثالب التى شابت «عملية السلام» المصرية - الإسرائيلية والطريق المنفرد الذى اتبعه أنور السادات، فإن «بناء السلام» كان هو محور الدور المصرى عبر قيادتها لحرب أكتوبر فى 1973، قبل مبادرة السادات بزيارة القدس فى 1978. وإذا كانت «جبهة الصمود والتصدى» العربية قد عارضت بشدة أنور السادات، وعطلت «الدور المصرى»، ووصل ذلك إلى ذروته بنقل الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، إلا أن ذلك كله لم يكن فى النهاية سوى ترتيبات مؤقتة ما لبثت مصر بعدها أن عادت، بعد اختفاء أنور السادات، إلى ممارسة «دورها العربى»، حيث حجمت علاقتها بإسرائيل، بحيث لا تطغى على دورها وريادتها العربية. وبدا ذلك واضحاً بقوة فى عام 1990 عقب الغزو العراقى للكويت، واضطلاع مصر بدور قيادى فاعل فى بناء الجبهة العربية لتحرير الكويت، فضلاً عن إضفاء المشروعية على التدخل الدولى لحرب التحرير، باعتباره واجباً أخلاقياً وسياسياً لا يمكن إغفاله أو التنكر له. استناداً إلى هذا التراث والتاريخ الطويل أتساءل اليوم: أين دور مصر العربى؟ وهل سوف يستمر طويلاً هذا الانشغال الداخلى والانكفاء على الذات؟ إننى أدعو النخبة المصرية خاصة تلك المهتمة بالسياسة الخارجية المصرية إلى أن تنشغل بتلك القضية، أى إعادة بناء «دور» مصر فى مرحلتها الراهنة، أى دور مصر «الديمقراطية» بعد أن تبرأت اليوم من استبداد «مبارك»، وضحالة وخيبة الإخوان المسلمين، التى يمكن أن تقدم نموذجاً جديداً ومختلفاً وجاذباً للعرب جميعاً. ولعل المحنة السورية توفر اليوم فرصة لإعادة النظر فى تلك القضايا جميعاً، لتجعل بناء «الدور» المصرى مهمة تتوازى مع، وتكمل، استكمال البناء الديمقراطى لمصر، الذى توضع اليوم أولى لبناته أى «دستور الثورة»، الذى نأمل أن يأتى ملبياً لطموحات بناء مصر القوية، ذات الدور والرسالة!