كانت الاضطرابات التى تشهدها البلاد على أشدها. رصاصات مجهولة أرادت اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر وهو يلقى خطبته فى ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، لكنها أخطأت هدفها. البلد غير مستقر أمنياً والنظام الحاكم يوجه أصابع الاتهام لجماعة الإخوان المسلمين. عشرات السياسيين والمناضلين تم الزج بهم إلى جانب أعضاء التنظيم فى غياهب المعتقلات، كان من ضمنهم هذا الشاب الصغير الذى لم يتجاوز عمره 19 عاماً. علامات البراءة على وجهه وزيه الأنيق جعلاه مختلفاً عمن حوله. كلمات السجان التى رددها بصوت جهورى لا تزال ترن فى أذنيه حتى الآن: «ماتخافش.. أنت هتدخل زنزانة الفن»، قالها له وهو يلقى به داخل الزنزانة. لم يفهم تلك الكلمات إلا عندما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس والشاعر عبدالرحمن الخميسى وكاتب السيناريو حسن فؤاد، زملائه فى الزنزانة. جاء الدور عليه ليعرف نفسه ولماذا دخل المعتقل: «دخلت عشان كان اسمى فى قوايم الفدائيين قبل الثورة». قال تلك العبارة بتردد شديد، فرد عليه الخميسى: «دخلت عشان كده بس!. المرة الجاية لو قررت تدخل المعتقل اعمل حاجة كبيرة تؤثر فى البلد بجد مش مجرد اسم فى كشف فدائيين». كلمات الخميسى الساخرة التى قالها بتهكم غيرت فيه كثيراً، وكانت بداية صداقة ونقاش مع زملائه فى الزانزانة، الذين تعلم منهم المعنى الحقيقى لكلمة «الوطنية»، وعرف أن عالم الفن لا ينفصل أبداً عن عالم النضال السياسى. فالفن الهادف هو الذى تُهاجم بسببه وتعتقل بسببه.. بل وتجوع بسببه. بعد خروجه بشهرين من المعتقل لعدم ثبوت إدانته فى أى جريمة، وفى الغرفة الفخمة التى زينت جدرانها لوحة كبيرة للزعيم سعد زغلول، وقف أمام والده المحاسب الكبير الذى تشير ملامحه إلى انتمائه إلى الطبقة الأرستقراطية المثقفة، ليخبره بقراره وهو الالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، كخطوة أولى فى طريق تحقيق كلمات الخميسى. الإصرار على جعل كلمات الخميسى حقيقة وليس مجرد كلمات كان حافز الشاب الطويل صاحب العينين العميقتين، ليصبح الأول على دفعته، وهو ما رشحه بعد ذلك ليكون أحد أعضاء البعثة التى اختارها المعهد لدراسة فن المسرح بإنجلترا. عاد الشاب وبدأ العمل فى مجال الفن، لكنه فى غمار كل ذلك لم ينس دوره السياسى الذى بدأه وهو صغير، فالتحق بعضوية الاتحاد الاشتراكى. لكن كلمات الخميسى ظلت تطارده وتقلق منامه، حتى وقف أمام محمود المليجى فى أشهر كلاسيكيات السينما المصرية «الأرض»، ليلعب دور «عبدالهادى»، الذراع اليمنى ل«محمد أبوسويلم»، أعظم فلاح مصرى، وشعر أن ضحكة الخميسى الساخرة تحولت إلى ابتسامة رضا بعد أن «عمل حاجة كبيرة أثرت فى البلد بجد». هل عرفت من هو هذا الشخص الآن؟ هو الفنان الكبير عزت العلايلى