حادثتان تجعلاننى أربطهما فى هذا المقال. الأولى حدثت قبل عشر سنوات تقريباً فى القاهرة، وكنت مدعواً لمركز الهناجر للفنون بدار الأوبرا، حيث كانت هناك أمسية لتكريم بعض الأدباء أتى معظمهم من أمكنة بعيدة، يسمونهم تسمية بغيضة لا أحبها: (كُتّاب الأقاليم). صُدمت حين استمعت إلى القيم المالية التافهة المصاحبة لجوائز إبداعاتهم التى تتراوح بين مائة وخمسين حتى خمسمائة جنيه مصرى. الحادث الثانى، كان فى جريدة سودانية قبل أسابيع طويلة، هاجمنى فيها أحد الكاتبين، باعتبارى قد حصلت على منح أدبية كثيرة من النمسا، وهو يؤكد أنه ليس لى أى علاقة بالكتابة والإبداع، حتى هنا والأمر عادى، فربما يرى أوضاع النمسا الأدبية من داخل السودان أفضل من لجان التحكيم النمساوية. الغريب أن الأمر تكرر نشره بعدها مرتين أخريين بصيغ مشابهة، ولم أردّ، لكنى أرى أنه من الضرورى أن أفرق فى هذا المقال بين ما يسمى هنا فى النمسا (المنحة الأدبية) وهناك العشرات منها، وقد حصل عليها كبار الكتاب النمساويين ذوى الأسماء اللامعة، إضافة إلى الأديبة الحائزة جائزة نوبل، بل أصبحت هناك جوائز باسم بعض من حصلوا على هذه المنح وبرزوا أدبياً فيما بعد. أقول إن هناك فرق بين (المنحة الأدبية) وبين (الإعانة)، فالأولى تكريم من الدولة ومساهمة فى المشوار الأدبى أو الفنى، والأخيرة يحصل عليها من بلا عمل أو العاجز عن تسيير أموره المعيشية، أو من يلجأ للبلاد لأسباب كثيرة ويستحق الإعانة. * والمنحة الأدبية هنا تعتبر بمثابة جائزة ومبالغها محترمة، تتجاوز الواحدة فيها أحياناً كل الجوائز الأدبية الممنوحة فى عام كامل فى بعض الدول العربية. هناك لجنة تحكيم سرية تقوم بفحص ترشيحات الأدباء والفنانين وتقرر بعدها منح من يستحق، وقد أسعدنى الحظ بالحصول على خمس منح عظمى، كل منها لمدة عام كامل لإنهاء أعمالى الأدبية التى ترجمت خمسة كتب منها للألمانية، إضافة لمنحة أو جائزة إلياس كانيتى، وحصلت على كثير غيرها من المنح المتوسطة أو الصغيرة، وتم تمويل كل رحلاتى الأدبية للخارج تقريباً باعتبارى كاتباً نمساوياً أيضاً، ومثلت النمسا مرات كثيرة فى أمكنة بعيدة مثل أيرلندا وهى المرة الأولى التى مثل فيها كاتب نمساوى البلاد فى مهرجان فرانكو آيريش، وبعدها فى جنوب أفريقيا قبل عامين، والعام الماضى فى المكسيك، وهى من اختيارات وزارة الثقافة، وتخضع لاختيارات ليست سهلة ولا عشوائية. * الآن يجب أن أسرد جزءاً يسيراً فقط من هذه المنح الأدبية النمساوية -غير الجوائز التى تقدم للكتاب والفنانين- لمحاولتهم إظهار صورة تستحق للأدب النمساوى صاحب الاسم الكبير وسط الآداب العالمية، رغم أن عدد السكان لم يتجاوز التسعة ملايين فقط، فمن المنح التى تقدمها الدولة هنا: المنحة السنوية باسم الأديب الشهير «روبرت موزيل» لثلاثة أشخاص بقيمة (54000 يورو، أربعة وخمسين ألف يورو) لثلاث سنوات متتالية ولثلاثة كُتّاب. المنحة السنوية باسم الأديب الشهير «إلياس كانيتى» بمبلغ (1500 يورو) شهرياً وتمتد لثلاث سنوات عند الحاجة. المنحة السنوية للمشروع الأدبى بقيمة (13200 يورو) لعشرين أديباً. منحة الدولة السنوية للأدب لعشرين أديباً بالقيمة السابقة. منحة الدولة النمساوية للأدب الأوروبى (25000 يورو). كما أن هناك منحة تقدمها مدينة جراتس لمدة عام كامل لكاتب أجنبى، وهناك كتاب العام الذى يتم اختياره من هيئة تحكيم وتطبع منه مدينة فيينا مائة ألف نسخة توزع مجاناً، وهذا جزء قليل جداً من كل! فرفقاً بكُتّاب بلداننا العربية الفقيرة، وصَدِّق أيها الكاتب المهاجم أن هذه المنح الأدبية ليست صدقات، وإنما حق من حقوق الأديب والفنان الذى يعمل بجد وينتج، حتى لو لم يصلك ما يكتبه بأى لغة!