الحكم الذى تصدره المحكمة الدستورية العليا اليوم، أيا ما كان، هو إدانة لما أُطلق عليه «المرحلة الانتقالية» التى شهدت ألواناً من التخبط وفقدان البوصلة وغياب الرؤية. ويكفى أن سلطتين من السلطات الثلاث، أى التنفيذية والتشريعية، تنتظران حكماً قد يزلزل كيانهما تصدره السلطة الثالثة -أى القضائية. المسألة باختصار أن المرحلة الانتقالية التى توشك على الانتهاء، وبالمناسبة قد تمدد لفترات يقتضيها حكم المحكمة الدستورية اليوم، لم تكن تعبيراً حقيقياً عن انتقال مجتمع من استبداد إلى ديمقراطية، بل شكلت مجالاً واسعاً للتخبط والاستقطاب والجدل العقيم، وكان هناك تصميم على اختراع «العجلة»، بمعنى الخروج بنموذج مصرى تصنيع يدوى خالٍ من المهارة والحرفية، فى حين أن تجارب الدول التى شهدت تحولات ديمقراطية على مدار عشرين عاماً ملهمة لاستخلاص الدروس والعبر. الاستثنائية فى ذلك اقترنت بالعبث والتخبط. الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية يقتضى مرحلة انتقالية تبدأ بدستور جديد يتخلص من الإرث الدستورى الاستبدادى، ثم حكومة انتقالية تكون مهمتها الأساسية إرساء قواعد لعبة جديدة تتمثل فى وضع قوانين تتيح الحق فى التنظيم مثل حرية إنشاء أحزاب سياسية، التخلص من أى قيود على حركة المواطنين فى التعبير عن أنفسهم، إقرار قواعد العدالة الانتقالية بما تعنيه من محاكمات خاصة قانونية، وليست استثنائية ثورية، لمحاكمة المستبدين والمفسدين فى النظام السابق، وأخيراً العمل على تغيير نوعية الحياة للمواطنين، وإشعارهم بأن التحول الديمقراطى يحمل لهم واقعاً جديداً تشتمّ منه عبير الحرية والكرامة الإنسانية والحياة الكريمة. لم يحدث ذلك فى أعقاب سقوط نظام مبارك (11 فبراير 2011)، وامتدت الممارسة السياسية لنحو عام ونصف العام على أساس «التجربة والتعلم من الخطأ». نبدأ بتعديل تسع مواد فى دستور 1971م، ثم نجرى انتخابات برلمانية حتى تتشكل لجنة المائة التى سوف تضع الدستور، وقبل أن تتشكل اللجنة وتمارس عملها، ننتخب رئيساً للجمهورية بلا صلاحيات محددة، اللهم إلا الواردة فى الإعلان الدستورى، وهى بالمناسبة ليست مختلفة كثيراً عن الصلاحيات التى تمتع بها مبارك فى السابق. وخلال هذه المرحلة من التخبط جرت مياه كثيرة، أبرز ملامحها استقطاب بين قوى إسلامية وأخرى يسارية وليبرالية فى محطات كثيرة، منها: التصويت فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011، ثم فى معركة وضع مبادئ أساسية للدستور، ثم فى تشكيل لجنة الدستور الأولى التى أبطلها القضاء ثم اللجنة الثانية. ورغم التحذيرات الكثيرة من خطورة الاستقطاب، الذى يدخل فيه الدين طرفاً فى حالة مجتمع سياسى غير مستقر، ولا توجد به قواعد واضحة لإدارة العملية السياسية، فإن الاستقطاب استمر وبلغ ذروته فى إقرار اتفاق على غرار «الحصص الطائفية» فى لبنان بين ما أطلق عليه «القوى الإسلامية» و«القوى المدنية» فى تشكيل لجنة الدستور الثانية، وهو ما يشكل سابقة خطيرة فى مجتمع موحد، لا يعرف الطائفية العرقية والدينية، فما بالك بالطائفية السياسية؟! ولم تكن المسألة صعبة لو تخلصت القوى السياسية من رغبتها فى الهيمنة والانفراد بالقرار، وسعت إلى التواصل وبناء جسور التفاهم مع بعضها البعض، لكن ظهرت هذه القوى بالعجز عن تحقيق التوافق فيما بينها ما لم يأتِ طرف خارج عنها يجبرها على الاتفاق. فى دولة مركزية، حملت ملامح الاستبداد لأكثر من ستين عاما، التعددية لم تقترن فيها بالحوار والاتفاق على القواسم المشتركة، مما يشكل عائقا أمام مؤسسات الدولة والقوى السياسية على اختلاف ألوانها على تحقيق الحد الأدنى من التوافق. سلطة تشريعية فى مواجهة سلطة تنفيذية، وسلطة تشريعية فى مواجهة سلطة قضائية، أحزاب فى حالة تناحر فى وقت بدأ جسد النظام السابق يسترد عافيته، وقدرته على الفعل والحركة. هذه هى أزمة المجتمع السياسى الحقيقية، أن قواه غير قادرة أو راغبة على بناء المشتركات الأساسية، وهو ما يجعلها دائما فى حاجة إلى طرف خارج عنها لضبط إيقاعها وإجبارها على الاتفاق أو إدارة رشيدة للأزمة. من الحَكَم؟ المؤسسة العسكرية سوف تترك إدارة شئون البلاد حسب المعلن فى 30 يونيو، أم الرئيس المنتخب وهو بصرف النظر عن شخصه سوف يثير مساحات من الاستقطاب فى الشارع؟ هل سيكون بإمكانه -مراعاة لتغيير خريطة القوى السياسية- أن يلعب دور «الفرعون المايسترو» بدلاً من «الفرعون المستبد»؟