انقلاب فريد من نوعه حدث لهند بنت عتبة، بعد أن استسلم أهل مكة لانتصار النبى، صلى الله عليه وسلم، وسقوط دولة الشرك فى مكة. فعندما جاء زوجها أبوسفيان يدعو أهل مكة إلى الإسلام، قائلاً لهم إن محمداً جاء بما لا قِبَل لهم به، اتهمته «هند» بالخَرَف والعته، وحرّضت قومها على قتله، لم تمضِ ساعات على هذه الواقعة حتى جلجلت على لسانها عبارة «لم أرَ الله يُعبد فى البيت الحرام كما رأيت المسلمين يعبدونه بالأمس». وأغلب الظن أن «هند» كانت تُردّد هذا الكلام عن قناعة، وليس عن استسلام، فهى ليست بالمرأة الضعيفة التى يسهل كسرها، وربما كانت تُردده أيضاً عن ترتيب لما هو قادم، خصوصاً أن عبارة كاهن اليمن حول ابنها «معاوية» الذى سيملك العرب لم تكن تغادر خيالها. حوار استثنائى دار بين «هند» والنبى، صلى الله عليه وسلم، يمكن عنونته ب«حوار البيعة». جاءت «هند» منتقبة ومتخفية بين مجموعة من النساء لمبايعة النبى، وكان سر تخفّيها ما فعلته بحمزة بن عبدالمطلب فى أُحد، وكانت تخشى أن يأخذها النبى بفعلتها. اقتربت النساء من النبى. «فلما دنين من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليُبايعهن، قال: بايعننى على أن لا تشركن بالله شيئاً.. فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال.. ولا تسرقن.. فقالت: والله إنى كنت أصبت من مال أبى سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدرى أكان ذلك علينا حلالاً أم لا؟.. فقال أبوسفيان -وكان شاهداً لما تقول- أما ما أصبتِ فيما مضى، فأنتِ منه فى حل.. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: وإنك لهند بنت عتبة.. قالت: نعم.. فاعفُ عما سلف عفا الله عنك.. ثم قال: ولا يزنين.. فقالت: يا رسول الله.. وهل تزنى الحرة؟. ثم قال: ولا تقتلن أولادكن.. قالت: قد ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً.. فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.. ثم قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن.. فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.. ثم قال: ولا يعصيننى.. فقالت: فى معروف.. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمر: بايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم، فبايعهن عمر، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يُصافح النساء ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه». بغض النظر عن حالة الخوف التى دخلت بها «هند» إلى البيعة، وهو أمر طبيعى من امرأة كانت من بين من أهدر النبى دمهم قبل فتح مكة، فإن الحوار يشهد على أننا بصدد سيدة رابطة الجأش، ثابتة الجنان، تتمتّع بالحكمة المطلوبة فى مثل هذا الموقف العصيب، وبطلاقة اللسان فى إنتاج العبارات التى تحمل ردودها وتعليقاتها. يشهد على ذلك ردّها على النبى حين طلب منها ومن رهط النساء مبايعته على عدم قتل أولادهن، إذ علقت قائلة: «قد ربيناهم صغاراً حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كباراً». يحمل هذا التعليق عدة دلالات، أولاها أن جرح «هند» بسبب قتل عائلتها فى بدر ما زال ملتهباً، وثانيتها أنها لم تفقد جبروتها كامرأة تستطيع الرد عما يجيش بصدرها دون خوف أو تردُّد، وثالثتها أن نفس هند لم تبرَأ بعدُ من شوائب الثأر من المسلمين، ربما تكون الأمور قد اختلفت بعد ذلك، لكننا نصف حالها فى ذلك المقام. اللافت فى هذه الواقعة أن عمر بن الخطاب ضحك حتى استغرق فى الضحك على مقالة «هند»، وهو رد فعل غير معتاد من «عمر» فى مثل هذه المواقف. فالمشهور عنه أنه كان يُشهر فيها سيفه بلا تردُّد ليضعه على رقبة من لا تعجبه ردوده على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. رد فعل «عمر»، رضى الله عنه، دليل آخر على قوة شخصية تلك السيدة.