تمكنت منا العادة حتى أصبحت جزءاً أصيلاً من حياة يومية قاسية، حياة يتقدم فيها ما هو تافه أمام ما هو أهم، ويقيم فيها «إفيه» السخرية بأرقام من اللايكات والشير والإعجاب أعلى بكثير من تقييم فكرة جادة أو عمل جيد، وتذوب القضايا الجادة والمهمة والمصيرية فى أجواء سخونة المعارك الجانبية المفتعلة التى تهدر وقت هذا الوطن، ويتخذ الجادون، وأصحاب الأفكار المحترمة من العزلة رفيقاً خوفاً من أن تتسخ عقولهم وصفحات تاريخهم من «هرتلات» من يتصدرون المشهد بأكاذيبهم وشهادتهم المزورة وعطارتهم وشتائمهم. يوماً ما وسط كل هذا الركام العبثى وضع الشيخ الحبيب على الجفرى عدة قواعد، وقدمها كاقتراح منه لأهل دول الربيع العربى ليجعلوا منها دستوراً يساهم فى تخفيف مستوى الاحتقان المشتعل بين التيارات والفئات السياسية المختلفة، وبين السلطة وأهلها والمعارضة وأهلها. 1- قال تعالى مخبراً عن امرأة العزيز: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»(يوسف: 53)، وسوف أبدأ بنفسى.. كنت أخلط بين اختلاف المفاهيم وذوات الأشخاص الذين أختلف معهم فجنيت عداوات غير ضرورية، وإهداراً للجهد وإضاعة للوقت وكاد القلب يتلطخ بالكراهية والأسوأ من ذلك هو تبريرها دينياً.. فلما تأملت هديه الشريف، وجدت التفريق بن الخطأ والمخطئ فى هذا الباب إلى درجة الدفاع عن شارب الخمر فى حال إنزال العقوبة به: «لاَ تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إلا إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (صحيح البخارى، 8/158 برقم 6780)، فحاولت العمل بمقتضاه.. فاتسع القلب لمحبة الجميع.. والحمد لله. 2- كنت أتحسس ممن ينتقد أى فكرة أتبناها وتوهمنى نفسى بأن الناقد يقصدنى أو يقصد منهجاً أؤمن به أو قوماً أنتمى إليهم.. فلما تجاوزت التوقف مع الناقد وأسلوبه ونيته إلى الاستفادة من نقد المحب والمبغض وجدتهم معارج للرقى من الخطأ إلى الصواب.. وأسباباً للتحرر من مذلة استجداء الثناء.. وطرقاً للوقوف على حقيقة العبودية من أوسع أبوابها.. ألا وهو مشهد الاعتراف بالنقص.. وهو بداية الانطلاق نحو الكمال.. فأحببت الناقد محباً ومبغضاً.. ولا عجب من حب يورث حباً.. وإنما العجب كل العجب من بغض يورث حباً.. فسبحان الغفور الودود. الوضع أبسط من نار هذه المعارك التى تلوح فى الأفق، والحلول بسيطة كما بدت فى الفقرتين السابقتين، أن يتحرر الجميع من مذلة استجداء الثناء من عبودية اللايك والشير من أن يظن كل تيار أن أشرار قومه خير من خيار القوم الآخرين لمجرد أنهم ينتمون إليه، الحل فى التجرد والنزاهة، العمل لصالح الوطن والفكر لا لصالح التيار أو السلطة. الحبيب الجفرى وضع عدة خطوات فى شكل نصائح مباشرة تحتاج إلى تأمل من كل العاملين فى السياسة والإعلام بمصر هو يؤكد ضرورة الثورة على الظلم الكامن فى نفوسنا أولاً، ثم نثور على تزوير الحقائق والتباسها بالقضايا العادلة، لمجرد أن ثمة اقتراناً يجمع بينهما وأن نعشق الحقيقة عشقاً يقضى على ظلمة أهوائنا وتصوراتنا المسبقة. وأن نتجاوز تطرفى مطلق احتكار الحقيقة.. ومطلق نسبية الحقيقة، وأن نثور على ظلم الجمال وحبسه على المشتهيات وأنانية حب التملك، وأن نصدق فى الفصل بين مشاعرنا الناقمة على ما يدور وبين النظرة المستوعبة للواقع. الأمر إذن سيظل معلقاً فى رقاب هؤلاء الذين يتقدمون الصفوف سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إن خلصت نواياهم، منحنا الله البصيرة لإيجاد المخرج، وإن ظلوا على حالهم عاجزين عن تنزيه نفوسهم عن الهوى، سنظل معهم ندور فى نفس الفلك، فلك التخوين وإهدار الوقت وسوء ترتيب الأولويات، والأخطر فلك صناعة بالونة الغضب الكبرى.