سلسلة الأحداث التي تواجهها اسرائيل مؤخرا ليست تسونامي. فليس فقط لا يدور الحديث عن مصيبة، بل ان احداث الاسابيع الاخيرة هي نتيجة سياقات سياسية بعضها يترابط معا وبعضها ينفصل: لاسرائيل كان نصيب في بعض التطورات ولكن ليس لها سيطرة على تطورات اخرى. حتى لو كانت معظمها غير مريحة لاسرائيل، فلا تزال محفوظة لها حرية عمل ما في أن تتمكن من تحقيقها اذا ما عرفت كيف تتخذ القرارات السليمة التي قد تكون قاسية. في مجالات معينة تتخذ الحكومة احيانا خطا مغلوطا، بسبب تقديرات غير صحيحة واخفاقات ايديولوجية. فالحكومة تضحي بمصالح حيوية على مذبح الايديولوجيا التي توجهها أو توجه بعضا من عناصرها. في هذا الضوء يجب أن نرى التطورات الاخيرة في العلاقات مع تركيا ومع مصر والاحداث الكفيلة بان تكون في الاممالمتحدة في السياق الفلسطيني. في كل ما يتعلق بعلاقات اسرائيل تركيا، يجب التمييز بين أحداث قليلة وبين تطورات سياسية بعيدة المدى. فقد فشلت اسرائيل مرتين في موقفها من الاسطول الى غزة. الفشل الاول كان في التصدي للاسطول نفسه. الفشل الثاني يكمن في عدم الاستعداد لتبني استنتاجات التقرير الذي وضعته لجنة بالمر والاعراب عن الاستعداد لدفع التعويضات لعائلات المدنيين الاتراك الذين قتلوا. المبررات التي منعت الحكومة من أن تقرر دفع التعويضات، وربطت بمفهوم 'الكرامة الوطنية'، تأتي من مطارح الخطابة والعقلية التي لا صلة لها بالمصالح الوطنية الحقيقية. كما أن الاحاديث عن مساعدة المنظمة الارهابية الكردية، حزب العمال الكردستاني ملائمة لبرلمان شعبي في مقهى وليس لمن هو مسؤول عن ادارة سياسة خارجية واقعية ومسؤولة. ومع ذلك، يخطيء من يعتقد بان سياسة اسرائيلية صحيحة كانت ستعيد الى سابق عهدها علاقاتها مع تركيا. وان كانت حكومة تركيا يقودها حزب اسلامي، الا انه ليس المذهب الديني وحده هو الذي يوجه سياستها. رئيس الوزراء، رجب طيب اردوغان، يعمل مع شركائه انطلاقا من مفاهيم استراتيجية شاملة، حدث مثل الاسطول الى غزة، مع كل مركزيته الاعلامية، يحتل مكانا هامشيا تماما بالقياس اليها. المبدأ الاول لهذه الاستراتيجية، الذي صاغه وزير الخارجية التركي احمد داوداغلو، هو التطلع التركي الى خلق وضع من 'صفر النزاعات' مع جيرانها. وفقا لهذا الخط بادرة أنقرة الى محاولات مصالحة مع ارمينيا، انفتاح تجاه ايران وتحسين العلاقات مع سوريا. كتحصيل حاصل لهذه السياسة، وبالاساس في اعقاب توثيق العلاقات مع ايران وسوريا، وهنا التحالف الوثيق مع اسرائيل. سبب العملية لم يكن مناهضا لاسرائيل، بل مفهوما شاملا، كان هو أيضا المحرك للمحاولة التركية للوساطة بين سوريا واسرائيل. يوجد منطق استراتيجي في السياسة التي ترمي الى تخفيض حدة التوترات في المنطقة، ولكن مبادرات تركيا لم تحظى بنجاح كبير: المصالحة مع أرمينيا لم تنجح، لاسباب معقدة؛ محاولة الوساطة بين سوريا واسرائيل فشلت؛ وأخيرا أخيرا، تركيا تتخذ صورة غير لطيفة على الاطلاق طالما كان صديقها، الحاكم السوري بشار الاسد، يذبح أبناء شعبه. يحتمل أيضا أن يكون فشل الانفتاح تجاه سوريا يشرح، على الاقل بشكل جزئي، التطرف في مواقف تركيا تجاه اسرائيل. مهما كان مصدر الفهم التركي، فان قسما منه بعيد عن ان يكون قصة نجاح. القسم الاخر من الاستراتيجية التركية اكثر تعقيدا. مصدره في الرفض الفظ لمساعي الانخراط التركية في الاتحاد الاوروبي، بالذات بعد أن اتخذت حكومة اردوغان عدة خطوات حقيقية للاستجابة للمطالب الاوروبية: الغاء عقوبة الموت، اصلاح في الجهاز القضائي، تمدين الرقابة على الجيش. بعد أن تبين بان الباب الى اوروبا اغلق، قررت أنقرة التوجه شرقا وترسيخ مكانتها كقوة عظمى اقليمية. هناك من يرى في الفهم التركي الجديد كعثمانية جديدة، وهناك من يعرفه بالرغبة في الهيمنة الاقليمية. مهما يكن من أمر، الاستنتاج واضح: ليس لانقرة نوايا لاعادة اقامة الامبراطورية. حكام تركيا يكتفون بتثبيت مكانتها كقوة عظمى اقليمية رائدة، يتعين على دول المنطقة ان تنسق خطها معها، أو على الاقل تمتنع عن الصدام الجبهوي معها. مع كل الفوارق، شيء ما في هذا النهج يذكر بموقف روسيا تجاه 'خارج البلاد القريب'، او الموقف التاريخي للولايات المتحدة من دول أمريكا الوسطى. واضح أن سياسة كهذه لا ترى بارتياح التجاهل الاسرائيلي للنهج التركي تجاه المسألة الفلسطينية. من جهة اخرى، هذه السياسة التركية ترحب بما يحصل في العالم العربي، وذلك لانه حتى لو لم تكن الثورات في الشرق الاوسط تغير الطغاة لتحل محلهم أنظمة ديمقراطية، فان السلطات في الدول العربية تضعف. لا تضر مصر ضعيفة، تسيطر عليها طغمة عسكرية مترددة وذات شرعية مهزوزة، افضل من ناحية أنقرة من مصر قوية بقيادة حسني مبارك. زيارة اردوغان الى مصر هذا الاسبوع هي احدى نتائج ضعفها كقوة عظمى اقليمية في أعقاب احداث ميدان التحرير. موقف الحكام في القاهرة من هذه الزيارة كان معقدا، وليس صدفة. فكرة الهيمنة التركية في المنطقة لا تلقى الكثير من الحماسة في مصر. لاسرائيل يكاد لا تكون سيطرة على هذه التطورات. المشورة الوحيدة التي يمكن اسداؤها في هذا السياق تذكر الامر الاول في القَسم الطبي: أولا وقبل كل شيء، لا تضر. حتى الان الحقنا بأنفسنا بضعة اضرار، ولا سيما في اتخاذ الخطابة الاستفزازية. في الايام الاخيرة يتخذ وزير الخارجية، افيغدور ليبرمان لغة منضبطة، ولكن الضرر سبق أن وقع. أحداث نهاية الاسبوع الماضي، في السفارة الاسرائيلية في القاهرة، تنخرط بالطبع في جملة تاريخية من المعارضة للسلام مع اسرائيل في أوساط جماهير واسعة في مصر. حملة رصاص مصبوب، التي رفعت فيها القوة العسكرية الوحشية لاسرائيل لاول مرة لتعرض في كل بيت عربي عبر التلفزيون، عظمت هذه المشاعر فقط. قتل الشرطة المصريين على الحدود، في أعقاب الحادثة قبل ايلات، صبت مزيدا من الزيت على الشعلة. ولكن سبب التدهور في مصر، الذي ذروته حتى الان كانت الاقتحام العنيف لمبنى السفارة الاسرائيلية، هو ضعف النظام الحالي، عديم الشرعية الاساس وامتناعه عن المواجهة مع الشارع. بشكل مفعم بالمفارقة، فان الاحتجاج الجماهيري في ميدان التحرير رفع الى الحكم، او عمليا ابقى هناك، من كانوا يخدمون مبارك لعشرات السنين. هذا الامر لا يخفى عن ناظر الجنرالات، ولا عن ناظر الجماهير. الحصار العنيف للسفارة الاسرائيلية ألحق ضررا ليس فقط بالعلاقات الاسرائيلية المصرية بل وأيضا بمكانة الحكم الحالي في مصر. الحكم الذي لا يستطيع أن يسيطر على شوارع عاصمته ويحمي السفارات الاجنبية فما بالك اذا كان حكما عسكريا يفقد شرعيته. المجلس العسكري فشل في اختبار القوة الاول له ومستقبل العلاقات الاسرائيلية المصرية هو بقدر كبير نتيجة مباشرة لقدرة المجموعة العسكرية على السيطرة الناجعة؟ هذا الحدث قلص أيضا احتمالات اجراء انتخابات في مصر في الزمن القريب القادم. اسرائيل معنية بالسلام مع مصر، وبالتالي معنية بحكم مستقر هناك. أمس كان الحكم بيد مبارك، واليوم تمسك به الطغمة العسكرية، وغدا من يدري. الفوضى هي عدو السلام وعدو الشعب المصري. التعابير الديمقراطية قد تكون جيدة لحلقة بحث في النظرية السياسية، وليس للواقع الوحشي لدولة مركبة ومعقدة كمصر. يبدو ان الاخوان المسلمين يفهمون هذا ايضا. في هذا الموضوع تصرفت اسرائيل بحكمة وحذر، اذا تجاهلنا التصريح الحماسي لرئيس الوزراء بعد الحادثة الدموية على الحدود المصرية قرب ايلات، والذي كان موجها ربما الى فرع الليكود في بيتح تكفا وليس الى المصالح الاستراتيجية لاسرائيل. حسن أن الاقوال لم تتقرر، حسن ان اسرائيل أعربت عن أسفها على موت الشرطة المصريين (على لسان وزير الدفاع والرئيس) وان نتنياهو شكر لمصر انقاذ رجال الامن المحاصرين. ينبغي الامل في أن تواصل اسرائيل هذا الخط مكبوح الجماح. هل هناك حاجة لبذل جهود لاعادة كل فريق السفارة الى القاهرة؟ في الظروف القائمة اليوم لست واثقا. لعله من المجدي اشتراط عودة الدبلوماسيين الاسرائيليين بالتطورات في مصر ووضع الجارة الجنوبية في اختبار معين. يجب العمل بحذر، بحساسية ولكن بتصميم. الاعتراف والدولة المسألة الاخيرة هي التوجه الفلسطيني الى الاممالمتحدة، لنيل الاعتراف بدولتهم. الكثير جدا كتب حول هذه الخطوة، الكثير جدا هددنا به أنفسنا بالنتائج المحملة بالمصائب، والتي خرجت على ما يبدو عن كل توازن. لحكومة نتنياهو توجد مسؤولية غير قليلة عن هذا الوضع. لعله ليس متأخرا بعد بذل الجهد لاستئناف المفاوضات، وان كان اصرار الفلسطينيين على طرح شروط مسبقة هو الذي منع في نهاية المطاف استئنافه. اذا قررت الجمعية العمومية الاعتراف بدولة فلسطينية في حدود 67، سيحظى الفلسطينيون بانتصار دعائي مثير للانطباع، واسرائيل ستقف عندها أمام تحديات غير بسيطة. ولكن الدولة الفلسطينية لن تقوم بسبب ذلك. قرار 29 تشرين الثاني هو الاخر، مع كل أهميته وأولا وقبل كل شيء الشرعية التي منحها لاقامة دولة يهودية (وعربية) في بلاد اسرائيل لم يقم دولة هنا. الدولة اليهودية اقامتها قدرة الحاضرة اليهودية في بلاد اسرائيل في الدفاع عن نفسها. الدولة الفلسطينية لم تقم بسبب فشل مزدوج للفلسطينيين في الحرب ضد اسرائيل، وفي انعدام القدرة على خلق أدوات فاعلة لبلورة اطار سياسي شرعي، يمنحهم القدرة على بناء أمة. بدلا من ذلك جروا الى الاحتلال الاردني والمصري. الواقع اليوم مختلف، بالطبع، ولكن السبيل الوحيد الذي سيصل فيه الفلسطينيون الى الاستقلال الذي هم جديرون به هو المفاوضات مع اسرائيل. طالما تسيطر في اسرائيل حكومة يمينية، المفاوضات بالتأكيد لن تكون بسيطة. ولكن بدونها لن يكون بوسع قرار في الاممالمتحدة أن يخلق دولة في المكان الذي تغيب فيه شروط الحد الادنى لوجودها (القدرة على السيطرة الفاعلة على الارض). هذه الصعوبة تعظمها حقيقة ان السلطة الفلسطينية لا تسيطر في غزة، ولا يمكن لاي قرار في نيويورك أن يغير ذلك. القرارات اللفظية التي لا يمكن تحقيقها ليست بديلا عن السياسة. هذا هو أحد أسباب التردد الذي يبديه الاوروبيون، مع كل انتقادهم لسياسة اسرائيل بقيادة نتنياهو. الشرخ بين الضفة والقطاع معناه ان ليس للفلسطينيين اليوم سلطة متفق عليها، قادرة على أن تعبر بشكل شرعي عن سيادتهم. هكذا ولدت النكتة التي تروى مؤخرا في الدوائر الدبلوماسية: لعله يجدر بالاممالمتحدة لا ان تعترف بدولة فلسطينية واحدة بل بدولتين واحدة في الضفة، والاخرى في القطاع. هذه بالطبع مجرد نكتة. في كل الاحوال، القرار اللفظي في الاممالمتحدة لن ينجح في القفز عن الحقائق العسيرة، التي تفيد بان الفلسطينيين يوجدون في وضع قريب من حرب أهلية غافية. يحتمل ان في كل هذا تكمن فرصة لاسرائيل: اذا كانت السلطة الفلسطينية تدعي بأنها دولة واعطي لها اعتراف دولي ليس عاما، بل مثيرا للانطباع فان عليها أن تتصرف كدولة. القانون الدولي ينطبق عليها واسرائيل يمكنها ربما ان تدعي بان اتفاقات اوسلو، التي وقعت مع م.ت.ف وبعد ذلك مع السلطة الفلسطينية، لم تعد سارية المفعول. واضح ان اسرائيل لا يمكنها أن تلغي اتفاقات اوسلو، ولكن مجرد الاعلان عن دولة فلسطينية كفيل بان يضع سريان مفعولها في علامة استفهام. باختصار: واضح ان اسرائيل توجد في وضع غير سهل. ولا ينبغي الاستخفاف بمساهمتها هي في نشوئه. ولكن لا مبرر للاحاسيس الهستيرية القائمة الان في البلاد. في جعبة اسرائيل توجد أدوات، ويمكن استخدامها انطلاقا من وعي بالواقع المركب؛ عمل ذلك بذكاء، بحذر وبالاساس بعقل. ' بروفيسور في العلوم السياسية، مدير عام وزارة الخارجية سابقا هآرتس 18/9/2011 القدس العربي